الثاني : أنه « وَتَلَّهُ لِلْجَبِين » والواو زائدة وهو قول الكوفيين والأخفش.
والثالث : أنه « وَنَادَيْنَاهُ » والواو زائدة أيضاً كقوله :﴿ وأجمعوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الجب وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ ﴾ [ يوسف : ١٥ ] فنودي من الجبل أن يا إبراهيم قَدْ صَدَّقْت الرؤيا. تَمَّ الكلام هنا. ثم ابتدأ : إنَّ كَذَلِكَ ( نَجْزِي المُحْسِنِينَ ) وقرأ عَلِيُّ وعبدُ الله وابنُ عباس سلّما وقرئ : اسْتَسْلَمَا « وتله » أي صرعه وأضْجَعَهُ على شِقِّه، وقيل : هو الرمي بقوة وأصله من رمى به على التلِّ وهو المكان المرتفع أو من التَّليل وهو العُنُق، أي رماه على عُنُقِهِ، ثم قيل لكُلّ إسقاط وإن لم يكن على تَلِّ ولا عنق والتَّلُّ الرِّيح الذي يُتَلُّ به، و « الجَبِينُ » ما انكشف من الجبهة من هنا ومن هنا، وشذ جمعه على أجْبُن، وقياسه في القلة أَجْبِنَه كَأرْغفَةِ وفي الكثرة جُبُن وجُبْنَان كرَغِيفٍ ورُغُفٍ وَرُغْفَان.

فصل


والمعنى سلم لأمره الله، وأَسْلَم واسْتَسْلَمَ بمعنًى واحد أي انقاد وخضع. والمعنى أخلص نفسه لله وجعلها سالمة خالصة وكذلك استسلم استخلص نفسه لله، وعن قتادة في سلما : أسلم هذا ابنه، وهذا نفسه، وقوله :﴿ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾ أي صرعه على شِقِّه فوقع أحد جبينيه للأرض وللوجه جَبِينَانِ والجبهة بينهما. قال ابن الأعرابي : التَّلِيلُ والمَتْلُون المَصْرُوع والمُتلُّ الذي يُتَلُّ به أي يُصْرَعُ والمعنى أنه صرعه على جبينه وقال مقاتل : كبه على جبهته وهذا خطأ لأن الجبين غير الجبهة ﴿ وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ ﴾.
فإن قيل : لِمَ قَالَ : صَدَّقْت الرؤيا وكان قد رأى الذبح لم يُذْبَحْ؟ قيل : جعله مصدقاً لأنه قد أتى بما أمكنه والمطلوب إسلامها لأمر الله وقد فَعَلاَ. وقيل : قد كان رأى في النوم مصالحة ولم ير إراقَهَ دَم وقد فعل في اليقظة ما رأى في النوم ولذلك قال : قد صدقت الرؤيا، قال المحققون : السبب في هذا التكليف كمال طاعة إبراهيم لتكاليف الله فلما كلَّفه هذا التكليف الشاقّ الشديد وظهر منه كمالُ الطاعة وظهر من ولده كمال الطاعة والانقياد لا جرم قال الله تعالى :﴿ قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ ﴾ وقوله :﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين ﴾ ابتداء إخبار من الله تعالى والمعنى إنما كما عَفوْنا عن ذبح ولده كذلك نجزي من أحسن في طاعتنا قال مقاتل : جزاه الله بإحسانه في طاعته العفو عن ذبح ولده ﴿ إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين ﴾ الاختبار البَيِّنُ الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم أو المحنة البينة الصعوبة التي لا محنةَ أصعبُ منها، وقال مقاتل : البلاء ههنا النِّعمة وهو أن فدى ابنه بالكبش، وقوله :﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ الدِّبْحُ مصدر ذَبَحْتُ والذِّبح أيضاً ما يذبح وهو المراد في هذه الآية وسمي عظيماً لِسمنِهِ وعِظَمِهِ، وقال سعيد بن جبير : حق له أن يكون عظيماً لِعِظَمِ قَدْرِهِ حيث قبله الله فداء ولد إبراهيم وتقدم الكلام على نظير بقيَّة القصة.


الصفحة التالية
Icon