قوله :﴿ وعجبوا أَن جَآءَهُم ﴾ أي مِنْ أَنْ، ففيها الخلاف المشهور. « وقَالَ الكَافِرُونَ » من باب وضع الظاهر موضع المضر شهادةً عليهم بهذا الوصف القبيح.
فصل
لما حكى عن الكفار في كونهم في غزّة وشقاقٍ أتبعه بشرح كلماتهم الفاسدة فقال :﴿ وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ ﴾ وفي قوله :« منهم » وجهان :
الأول : أنهم قالوا : إن محمداً مساوٍ لنا في الخِلْقَة الظاهرة والأخلاق الباطنة والنسب والشكل والصورة فكيف يعقل أن يُخْتَصَّ من بيننا بهذا المنصب العالي؟!.
والثاني : أن الغرض من هذه الكلمة التنبيه على كمال جهلهم ( لأنهم جاءهم رجل يدعوهم إلى التوحيد وتعظيم الملائكة والترغيب في الآخرة والتنفير عن الدنيا ثم إن هذا الرجل ) من أقاربهم يعلمون أنه كان بعيداً عن الكذب والتهمة وكان ذلك مما يوجب الاعتراف بتصديقه ثم إنهم لحماقتهم يتعجبون له من قوله. ونظيره قوله :﴿ أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٦٩ ] ﴿ وَقَالَ الكافرون هذا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ مبالغة في « عجب » كقولهم : رَجُلٌ طُوَال وأمْر سُرَاعٌ، هما أبلغ من طَوِيل وسَرِيع، وقرأ عليٌّ والسُّلَمي وعيسى وابن مِقْسم : عُجَّاب بتشديد الجيم. وهي أبلغ مما قبلها فهي مثل رجل كريم وكُرَّام.
قال مقاتل : وعجاب- يعني بالتخفيف - لغة أَزْدِ شَنُوءَةَ، وهذه القراءة أعني بالتشديد كقوله :﴿ وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً ﴾ [ نوح : ٢٢ ] وهو أبلغ من كُبَارٍ وكُبَارٌ أبلغ من كَبِير، وقوله :« أَجَعَلَ » أي أصَيَّرها إلَهاً واحداً في قوله وزعمه.
قوله :﴿ وانطلق الملأ مِنْهُمْ ﴾ الملأ : هم القوم الذين إذا حضروا امتلأت العيونُ والقلوبُ من مهابتهم، وقوله « مِنْهُمْ » أي من قريش انطلقوا عن مجلس أبي طالب بعد ما بكَّتهم رسول الله - ﷺ - بالجواب العنيد قائلين بعضهم لبعض :« أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا على آلِهَتِكُمْ »، وذلك « أن عُمَرَ بْنَ الخطاب أسلم فشق ذلك على قريش وفرح به المؤمنون فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش وهم الصناديد والأشراف وكانوا خمسةً وعشرينَ رجلاً أكبرهم سنًّا الوليد بن المغيرة قال لهم : امشوا إلى أبي طالب فأتَوْا أبا طالب وقالوا له : انت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء وإنا قد أتينَاك لتقضيَ بيننا وبين ابن أخيك، فأرسل أبو طالب إلى النبي - ﷺ - فدعا به فقال يا ابن أخي : هؤلاء قومك يسألونَك السَّوَاءَ فلا تَمِلْ كُلَّ الميل على قلومك، فقال رسول الله - ﷺ - :» مَاذَا تسألون؟ « فقالوا : ارْفُضْ ذكرَ آلهتنا ونَدَعُكَ وآلهتَك فقال النبي - ﷺ - : أعطوني كلمةً واحدة تملكون بها العرب وتدين لكمن بها العجز فقال أبو جهل لله أبوك لنُعْطِيكَها وعشراً أمثالها فقال رسول الله - ﷺ - : قولوا لا إله إلا الله فنفروا من ذلك وقالوا : أجعل الآلهة إلهاً واحداً كيف يسع الخلق كلهم إله واحد؟! ﴿ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ أي عجيب ».