وأيضاً فالأصل براءة الذمة، وأيضاً فلما تعارض ذكر التَّحرُّم والتحليل كان جانب التحريم أولى، وأيضاً طريقة الاحتياط توجب ترجيحَ قولِنَا، وأيضاً فنحن نعلم بالضرورة أن بتقدير ( وقوع ) هذا الواقعة لا يقول لنا الله يوم القيامة لِمَ لَمْ تَسعَوْا في تشهير هذه الواقعة أما بتقدير كونها باطلة فإنه يوجب أن لا تجوزَ الشهادة بها، وأيضاً كل المفسرين لم يتفقوا على هذا القول، بل الأكثرون والمحققون يردونه ويحكمون عليه بالكذب، وإذا تعارضت أقوال المفسرين والمحدِّثين تساقطت وبَقِيَ الرجوع فيه إلا الدلائل التي ذكرناها.
الاحتمال الثاني أن نحمل هذه القصة على حُصُول الصغيرة لا على حصول الكبيرة وذلك من وجوه :
الأول : أن هذه المرأة خطبها « أوريا » فأجابوه، ثم خطبها داود فآثره أهلها فكان ذنبه أن خَطبَ على خطبته أخيه المؤمن مع كثرة نسائه.
الثاني : قالوا إنه وقع بصره عليها فمال قلبه إليها وليس له في هذا ذنب ألْبَتَّةَ، أما وقوع بصره عليها من غير قصد بذنب، وأما حصول الميل عقيب النظر فليس أيضاً ذنباً، لأن الميل ليس في وسعه فلا يكون مكلفاً به بل لما اتفق أنه قتل زوجها لأجل أنه طمع في أن يتزوج بتلك المرأة فَحَصَلت بسبب هذا المعنى وهو أنه لم يشق عليه قتل ذلك الرجل.
والثالث : أنه كان أهل زمان داود عليه ( الصلاة و ) السلام يسأل بعضهم بعضاَ أن يطلق زوجته حتى تزوجها وكانت عادتها مألوفة مفهومة في هذا المعنى فاتفق أن عين داود ( عليه السلام ) وقعت على تلك المرأة فأحبها فسألوه النزول فاستحيا أن يرده ففعل وهي أم سليمان فقيل له هذا وإن كان جائزاً في ظاهر الشريعة إلا أنه لا يليق بك فإنَّ حسناتِ الأبرار سيئات المقربين. فهذه وجوه ثلاثة لو حملنا هذه القصة على واحد منها لم يلزم في حَقِّ داود عليه ( الصلاة و ) السلام إلا ترك الأفضل، والأولى.
الاحتمال الثالث : أن تحمل هذه القصة على وجه لا يلزم منه إيجاب كبيرة ولا صغيرة لداود عليه ( الصلاة و ) السلام بل يوجب إلحاق أعظم أنواع المدح والثناء به وهو أنه نقول : روي أنَّ جماعة من الأعداء طمعواأن يقتلوا داود - عليه ( الصلاة و ) السلام- وكان له يوم يخلو فيه بنفسه ويشتغل بطاعة ربه، فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم وتسوَّرُوا المحراب فلما دخلوا عليه وجدوا عنده أقواماً يمنعهم منه فخافوا ووضعوا كذباً يحتج به في إلحاق الذنب بداود عليه ( الصلاة و ) السلام إلا ألفاظ أربعة :
أحدهما : قوله :﴿ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ﴾
وثانيها : قوله :﴿ فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً ﴾.
وثالثها :﴿ وَأَنَابَ ﴾.
ورابعها : قوله :﴿ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ﴾ ثم نقول : هذه الألفاظ لا يدل شيء منها على ما ذكروه من وجه :
الأول : أنهم لما دخلوا عليه لطلب قتله بهذه الطريق وعلم داود عليه السلام دعاه الغضب إلى أن يشتغل بالانتقام منهم أي أنه مال إلى الصَّفْح والتجاوز عنهم طلباً لمرضاة الله تعالى فكانت هي الفتنة لأنها جاريةٌ مَجْرَى الابتلاء والامتحان ثم إنَّه استغفر به مما هَمَّ به من الانتقام منهم وتاب عن ذلك الهمِّ وَأَنَابَ فغفر له ذلك القدر من الهمِّ والعزم.


الصفحة التالية
Icon