والمراد بالحق إما الباري تعالى كقوله :﴿ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين ﴾ [ النور : ٢٥ ] وإمّا نقيض الباطل.
والثاني : أنه منصوب على الإغراء أي الزّمُوا الحَقَّ.
والثالث : أنه مصدر مؤكد لمضْمُونِ قَوْلِهِ :« لأَمْلأَنَّ » قال الفَّرَاء : هو على معنى قولك : حَقًّا لآتَينَّكَ، ووجود الألف واللام وطرحهما سواء ( أي لأملأن جهنم حقاً ) انتهى. وهذا لا يتمشّى مع قول البصريين، فإن شرط نصب المصدر المؤكد لمضمون الجملة أن يكون بعد جملة ابتدائية جزءاها معرفتان جَامِدان وجوز ابن العِلْجِ أن يكون الخبر نكرة، وأيضاً فإن المصدر المؤكد لا يجوز تقديمه على الجملة المؤكدة هو لمضمونها؛ وهذا قد تقدم.
وأما الثاني فمنصوب « بأَقُولُ » بعده، والجملة معترضة كما تقدم، وجوز الزمخشري أن يكون منصوباً على التكرير بمعنى ( أنَّ ) الأولَ والثانيَ كليهما منصوبان بأقُولُ وسيأتي إيضاح ذلِك في عبارته وقرأ عاصمٌ وحمزة برفع الأول ونصب الثاني، فرفع الأول من أوجه :
أحدهما : أنه مبتدأ وخبره مضمر تقديره فالحق مِنِّي أو فالحَقُّ أَنَا.
والثاني : أنه مبتدأ خيره « لأَمْلأَنَّ »، قاله ابن عطية، قال : لأن المعنى إني أمْلأُ. قال أبو حيان : وهذا ليس بشيء؛ لأن « لأَمْلأَنَّ » جوابُ قسم ويجب أن يكون جملة فلا تَتَقَدَّرُ بمفرد، وأيضاً ليس مصدراً مقدراً بحرف مصدريّ والفعل حتى ينحل إليهما وَلِكنَّهُ لما صحَّ إِسناد ما قدر إلى المبتدأ حكم أنَّه خبرٌ عنه.
قال شهاب الدين : وتأويل ابن عطية صحيحٌ من حيث المعنى لا من حيثُ الصناعةُ.
الثالث : أنه مبتدأ خبره مضمر تقديره فالحَقُّ قَسَمِي و « لأَمْلأَنَّ » جواب القسم، كقوله :﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [ الحجر : ٧٢ ] ولكن حذف الخبر هنا ليس بواجب لأنه ليس نصاً في اليمين، بخلاف « لعمرك » ومثله قول امرئ القيس :

٤٢٨٥- فَقُلْتُ يَمِينُ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِداً وَلَوْ قَطَّعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالِي
وأما نصب الثاني فبالفعل بعده، أي وأنا أقولُ الحقَّ وقرأ ابنُ عَبَّاس ومجاهدٌ والأعمشُ برفعهما، فرفع الأول على ما تقدم، ورفع الثاني بالابتداء وخبره الجملة بعده، والعائدُ محذوفٌ كقوله تعالى في قراءة ابن عارم :« وَكُلٌّ وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى » وقوله أبي النَّحْمِ :
٤٢٨٦- قَدْ أَصْبَحَتْ أُمُّ الخِيَارِ تَدَّعِي عَلَيَّ ذَنْباً كُلُّهُ لَمْ أَصْنَعِ
ويجوز أن يرتفع على التكرير عند الزمخشري وسيأتي، وقرأ الحسن وعيسى بجرِّهما وتخريجهما على أن الأول مجرور بواو القسم مقدرة فَوَالحَقِّ و « الحَقّ » عطف عليه كقولك : وَاللَّهِ وَاللَّهِ لأَقُومَنّ «، و » أَقُولُ « اعتراضٌ بين القسم وجوابه ويجوز أن يكون مجرواً على الحكاية وهو منصوب المحلّ » بأقولُ « قال الزمخشريّ : ومجرورين- أي وَقُرِئَا مَجْرُورَيْنِ- على أن الأول مقسم به قد أضمِر حرف قسمه كقولك :» ( و ) اللَّهِ لأَفْعَلَنّ والحَقِّ أقولُ « أي ولا أقولُ إلاّ الحقَّ على حكاية لفظ المقسم به ومعناه التوكيد والتشديد، وهذا الوجه جائز في المرفوع والمنصوب أيضاً وهو جهٌ دقيقٌ حسنٌ انتهى.


الصفحة التالية
Icon