فصل
تقدم الكلام : اضْربْ لقومك مثلاً وقل ما تقولون في رجلٍ مَمْلُوكٍ لشركاء بينهم اختلافٌ وتنازعٌ فيه وكل واحد يدعي أنه عبده فهم يتجاذبونه في حوائجهم وهو متحيِّر في أمره وكلما أرضى أحدّهم غضب الباقونَ، وإذا احتاج إليهم فكل واحد منهم يرده إلى الآخر فيبقى متحيّراً لا يعرف أيّهم أولى أن يطلب رضاه؟ وأيهم يُعِينه في حاجاته؟ فهو بهذا السبب في عذابٍ دائم، وآخر له مخدوم واحد يخدمه على سبيل الإخلاص وذلك المخدوم يعينه في مهاماته فأي هذا ( من ) العبدين أحسنُ حالاً؟ والمراد أن من أثبت آلهةً أخرى فإن الآلهة تكون متنازعة متغالبة كما قال تعالى :﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا ﴾ [ الأنبياء : ٢٢ ] وقال :﴿ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ ﴾ [ المؤمنون : ٩١ ] فيبقى ذلك المشرك متحيراً ضالاً لا يدري أَيَّ هؤلاء الآلهة يعبدُ؟ وعلى ربوبية أيهم يعتمد؟ وممن يطلب رزقه؟ فهمه مشَاع وقلبه أوْزَاع أما من لم يُثبت إلا إلهاً واحداً فهو قائم بما كلفه عارف بما يرضيه ويسخطه فكان حالُ هذا أقرب إلى الصلاح من حالِ الأول، وهذا المثال في غاية الحسن في تقبيح الشّرك وتحسين التّوحيد.
فإن قيل : هذا المثال لا ينطبقُ على عبادة الأصنام لأنها جَمَادَاتٌ فليس بينهما منازعة ولا تشاكس.
فالجواب : أن عبدة الأصنام مختلفون منهم من يقول : هذه الأصنام تماثيل الكواكب السبعة وهم يثبتون بينهما منازعة ومشاكسة، ألا ترى أنهم يقولون : زُحَلُ هو النحس الأعضم، ( والمشتري : هو السَّعد الأعظم ) ومنهم من يقول : هذه الأصنام تماثيل الأرواح السماوية وحنيئذ ( يحصل ) بين تلك الأرواح منازعة ومشاكسة وحنيئذ يكون المثال مطابقاً، ومنهم من يقول : هذه الأصنام تماثيل الأشخاص من العلماء والزَّهاد ( الذين ) مَضَوْا فهم يعبدون فهم يعبدون هذه التماثيل ليصير أولئك الأشخاص من العلماء والزُّهَّاد شفعاءَ لم عند الله. والقائلون بهذا القول يزعم كل طائفة منهم أن المحقّ هو الذي الرجل الذي هو على دينه، وأنّ من سواه مبطل وعلى هذا التقدير أيضاً ينطبق المثال.
قوله :« قُل الْحَمْدُ لِلَّهِ » يعني أنه لما أبطل القول بإثبات الشركاء والأنداد وثبت أنه لا إله إلا الواحدُ الأحدُ المحقُّ ثبت أن الحمد له لا لغيره، ثم قال « بل أكثرهم لا يعلمون » أن الحمد له لا لغيره، وأنّ المستحق العبادة هو الله. وقيل : لا يعلمون ما يصيرون إليه، وقيلي : المراد أنه لما سيقت عنده الدلائل الظاهرة قال :﴿ الحمد للَّهِ ﴾ على حصول هذه البيانات، وظهور هذه البيِّنات وإن كان ( أكثر ) الخلق لا يعرفونها قال البغوي : والمراد بالأكثر الكُلّ.