قوله تعالى :﴿ وياقوم مَا لي أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة وتدعونني إِلَى النار ﴾. قوله تعالى :﴿ وياقوم ﴾ قال الزمخشري : فَإن قُلْتَ : لِمَ جاء بالواو في الناداء الثالث دون الثاني؟
قلت : لأن الثانيَ داخل على كلام هو بيان للمجمل، وتفسير له، فأعطي الداخل عليه حكمه في امتناع دخول الواو. وأما الثالث فداخلٌ على كلام ليس بتلك المَثَابَةِ، أي كلام مباين للأول والثاني، فَحَسُنَ إيرادُ الواو العاطفة فيه. وكرر النداء لأن فيه زيادةَ تنبيه له وإيقاضاً من سنة الغفلة، وأظهر أن له بهذا مزيدَ اهتمامٍ، وعلى أُولئك الأقوام فرط شفقة.
قوله :﴿ وتدعونني إِلَى النار ﴾ هذه الجلة مستأنفة، أخبر عنهم بذلك بعد استفهام عن دعاء نفسه ويجوز أن يكون التقدير : وما لكم تدعونني إلى النار، وهو الظاهر، ويضعف أن تكون الجملة حالاً، أي مالكم أدعوكم إلى النجاة حال دعائكم إياي إلَى النار.
قوله :« تَدْعُونني » هذه الجملة بدل من « تَدْعُونَنِي » الأولى على جهة البيان لها. وأتى في قوله « تَدْعُونَنِي » بجلمة فعلية؛ ليدل على أن دعوتهم باطلة لا ثبوت لها، وفي قوله :« وَأَنَا أَدْعُوكُمْ » بجلمة إسميَّة؛ ليلد على ثُبُوتِ دعوته وتَقْوِيَتِهَا.

فصل


معنى قوله :« مَالَكُمْ » كقولك : ما لي أراك حزنياً، أي مالك، يقول : أخبروني عنك، كيف هَذِهِ الحال؟ أدعوكم إلى النجاة من النار بالإيمان بالله، وتدعونني إلى النار بالشرك الذي يُوجِبُ النار، ثم فصر فقال ﴿ تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بالله وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ﴾. والمراد بنفي العلم نفي الإلهة كأنه قال : وَأُشْرك به ما ليس لي بإله، وما ليس إله كيف يُعْقَلُ جَعْلُهُ شريكاً للإله؟
ولما بين أنهم يدعونه إلى الكفر بيَّنَ أنه يدعوهم إلى الإيمان بالعزيز الغَفَّارِ، « العزيز » في انتقامه ممن كفر، « الغفار » لذنوب أهل التوحيد. فقوله :« العَزِيزِ » إشارة إلى كونه كامل القدرة، وأما فرعون فهو في غاية العجز، فكيف يكون إلهاً؟ وأما الأصنام فهي حجارة منحوتة فيكف يعقل كونها آلهة؟ قوله :« الغَفَّار » إشارة إلى أنهم يجب أن لا يَيْأَسُوا من رحمة الله بسبب إصرارهم على الكفر مُدّةً مَدِيدَة فَإنَّ إله العَالَم، وإن كان عَزِيزاً لا يُغْلبُ، قادراً لا يعارض، لكنه غافار يغفر كفر سبيعنَ سنة بإيمان ساعةٍ واحدةٍ.
قوله :« لاَ جَرَمَ » تقدم الخلاف في « لاَ جَرَمَ » في سورة هود في قوله :﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون ﴾ [ هود : ٢٢ ]، وقال الزمخشري هنا :« ورُوِيَ عن بعض العرب : لا جُرْمَ أنه يفعل كذا بضم الجيم وسكون الراء بمعنى : لا بُدَّ. وَفَعَلٌ وَفُعْلٌ أخوان كَرَشَدٍ، وَرُشْدٍ، وعَدَمٍ، وَعُدْمٍ ».


الصفحة التالية
Icon