« هم سبعون رجلاً جاءوا بايعوا رسول الله - ﷺ - ليلة العقبة وقالوا اشترط لنفسك ولربك ما شئتَ فقال النبي - ﷺ - أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأولادكم قالوا : وإذا فعلنا ذلك ( فما لنا يا رسول الله؟ قال : لكم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة، قالوا : قد فعلنا فذلك ) عهدهم »، وهذا القول ليس بمَرْضِيٍّ؛ لأن الذين بايعوا ليلة العقبة كانوا سبعين لم يكن فيهم شَاكٌّ ولا مَنْ يقول مثل هذا القول وإنما الآية في قوم عاهدوا الله أن يقاتلوا ولا يَفِرُّوا فَنَقَضُوا العهد. وهذا بيان لفساد سريرتهم وقبح سيرتهم لنقضهم العهود فإنهم قبل ذلك تخلفوا وأظهروا عذراً ونَدَماً ثم هددهم بقوله :﴿ وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً ﴾ أي مَسْؤُولاً عنه.
قوله :« لاَ يُوَلُّونَ » جواب لقوله :« عَاهَدُوا » لأنه في معنى :« أقسموا » وجاء على حكاية اللفظ فجاء بلفظ الغيبة ولو جاء على حكاية المعنى لقيل : لا يُولِّي، والمفعول الأول محذوف أي يولون العدو الأدبار. وقال أبو البقاء : ويقرأ بالتشديد تشديد النون وحذف الواو على تأكيد جواب القسم. قال شهاب الدين : ولا اظن هذا إلا غلظاً منه وذلك أنه إما أن يُقْرأ مع ذلك بلا النافية أو بلام التأكيد، والأول لا يجوز لأن المضارع المنفي بلا لا يؤكد بالنون إلا ما نَدَرَ مما لا يقاس عليه والثاني فاسد المعنى.
قوله :« إنْ فَرَرْتُمْ » جوابه محذوف لدلالة النفي قبله عليه أو متقدم عند من يرى ذلك.
قوله :﴿ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ إذَنْ جواب وجزاء، ولما وقعت بعد عاطف جاءت على الأكثر وهو عدم إعمالها ولم يشذّ هنا ما شَذَّ في الإسراء، فلم يقرأ بالنصب، والعامة بالخطاب في « تُمَتَّعُونَ ». وقرىء بالغيبة.
فصل
المعنى :« قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ المَوْتِ أَو القَتْلِ } الذي كتب عليكم لأن من حضر أجله مات أوقتل ﴿ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ أي لا تمتعون بعد الفِرار إلا مدة آجالكم وهي قليل. وهذا إشارة إلى ان الأمور مقدرة لا يمكن الفرار مما قدره الله لأنه كائن لا محالة فلو فررتم لما دمتم بل لا تمتعون إلا قليلاً وهو ما بقي من آجالكم فالعاقل لا يرغب في شيء قليل يفوت عليه شيئاً كثيراً.
قوله :﴿ مَنْ ذَا الَّذِي ﴾ تقدم في البقرة، قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة ولا عصمة إلا من السوء؟ قلت : معناه أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة، فاختصر الكلام وأجْرِيَ مُجْرَى قوله :