وأما قراءة عِبَاد جمع « العَبْد » فقد تقدم أن لفظ العباد في القرآن مخصوصٌ بالمؤمنين، فقوله « عِبَاد الرَّحْمَنِ » يفيد حَصْرَ العُبُودِيَّة فيهم، فَإذَا كَانَ اللَّفظُ الدّالُ على العُبُوديَّة دالاً على حصر الفضل والقرب والشرب لهم وجب كونهم أفضل؛ والله أعلم.
قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ... ﴾ الآية يعنى الملائكة قاله قتادة ومقاتل والكلبي. وقال مجاهد : يعني الأوثان. وإنما لم يعجل عقوبتنا على عبادتنا إياهم، لرضاه منا بعبادتها وهذا نوع آخر من كفرهم وشبهاتهم.
فصل
قالت المعتزلة : هذه الآية تدل على فساد القول بالجبر في أن كفر الكافر يقع بإرادة الله من وجهين :
الأول : أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا : لو شاء الرحمن ما عَبَدْنَاهُمْ وهذا تصريح بقول المجبرة. ثم إنه تعالى أبطله بقولهم :﴿ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ﴾ فثبت بطلان هذا المذهب ونظيره قوله تعالى في سورة الأنعام :﴿ سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا ﴾ [ الأنعام : ١٤٨ ] إلى قوله :﴿ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٤٨ ].
الثاني : أنه تعالى حكى عنهم قبل هذه الآية أنواع كفرهم، فِأولها : قوله ( تعالى ) :﴿ وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا ﴾ وثانيها : قوله :﴿ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً ﴾ : قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ ﴾.
فلما حكى هذه الأقاويل بعضها على إثر بعض وثبت أن القولين الأولين كفر محض، فكذلك هذا القول الثالث يجب أن يكون كفراً وأجاب الواحدي في البسيط بوجهين :
الأول : ما ذكره الزجاج وهو أن قوله تعالى :﴿ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ ﴾ عائد إلى قولهم : الملائكةُ بناتُ الله.
والثاني : أنهم أرادوا بقولهم : لَوْ شَاءَ الرحمن ما عبدناهم أنه أمرنا بذلك ورضي بذلك فقررنا عليه فأنكر عليهم ذلك.
قال ابن الخطيب : وهذان الوجهان عندي ضعيفان، أما الأول، فلأنه تعالى حكى عن القوم قولين باطلين، وبين وجه بُطْلاَنهما، ثم حكى بعده وجهاً ثالثاً في مسألة أجنبية عن المسألتين الأوليين، ثم حكى البطلان، والوعيد، فصرف هذا الإبطال الذي ذكره عنه إلى كلام متقدم وأجنبي عنه في غاية البعد. وأما الوجه الثاني : فهو أيضاً ضعيف؛ لأن قوله :﴿ لو شاء الرحمن ما عبدناهم ﴾ ليس فيه بيان متعلق خلاف تلك المشيئة والإجمال خلاف الدليل، فوجب أن يكون التقدير : لو شاء الله أن نعبدَهم ما عبدناهم. وكلمة « لو » تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فهذا يدل على أنه لم توجد مشيئة لعدم معبادتهم، وهذا غير مذهب المجبرة. والإبطال والإفساد يرجع إلى فساد هذا المعنى.