قوله :﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ ﴾ اليوم منصوب بقول مضمر، أي يقال لهم : أَذْهَبْتُمْ في يوم عرضهم. وجعل الزمخشري هذا مثل قولهم :« عُرِضَتْ النَّاقَةُ عَلَى الْحَوْضِ » فيكون قلباً. وردهُ أبو حيان بأنه ضرورة وأيضاً العرض أمر نسبي فتصح إلى الناقة، وإلى الحوض. وقد تقدم الكلام في القلب وأنَّ فيه ثلاثة مذاهب.
قوله :﴿ أَذْهَبْتُمْ ﴾ قرأ ابن كثير : أَأَذْهَبْتُمْ بهمزتين الأولى مخففة والثانية مُسَهَّلة بَيْنَ بَيْنَ ولم يُدخل بينهما ألفاً. وهذا على قاعدته في :« أأنذرتهم » ونحوه. وابن عامر قرأ أيضاً بهمزتين، لكن اختلف رواياه عنه : فهشام سهل الثانية وخففها، وأدخل ألفاً في الوجهين، وليس على أصله فإنه من أهل التحقيق. وابن ذكوان بالتحقيق فقط، دون إدخال ألف، والباقون بهمزة واحدة فيكون إما خبراً وإما استفهاماً سقطت أداته للدلالة عليها.
والاستفهام معناه التقريع وكلتا القراءتين فصيحتان لأن العرب تسْتَفْهِمُ وتترك الاستفهام فتقول : أذْهَبْتَ فَفَعَلْتَ كَذَا؟ وذَهَبتَ فَفَعَلْتَ كَذَا؟.
قوله :﴿ فِي حَيَاتِكُمُ ﴾ يجوز تعلقه « بأَذْهَبْتُمْ : ويجوز تعلقه بمحذوف على أنه حال من » طَيْبَاتِكُمْ «.

فصل


قيل : المعنى يعرض الذين كفروا على ( النار ) أي يَدْخُلُون النار. وقيل : تدخل عليهم النارُ ليروا أهوالها، ويقال لهم : أَذْهَبتُمٍ طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمعتم بها، والمعنى أن ما قدر لكم من الطيبات والدَّرَجَات فقد استوفيتموه في الدنيا، فلم يبق لكم بعد استيفاء حضكم شيء منها. وعن عمر رضي الله عنه : لَوْ شِئْتُ لَكُنْتُ أَطْيَبَكُمْ طَعَاماً وأحْسَنَكُمْ لِبَاساً، ولكنِّي أسْتَبْقِي طَيِّباتِي. قال الواحدي : إن الصالحين يؤثرون التقشف والزهد في الدنيا رجاء أن يكون ثوابهم في الآخرة أكمل، لأن هذه الآية لا تدل على المنع من التمتع، لأن هذه الآية وردت في حق الكافر، وإنما وبخ الله الكافر، لأنه تمتع بالدنيا ولم يؤد شكر المنعم بطاعته، والإيمان به، وأما المؤمن فإنه يؤدي بإيمانه شكر المنعم، فلا يبّخ بتمتعه، ويدل على ذلك قوله تعالى :﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق ﴾ [ الأعراف : ٣٢ ] نعم لا يُنْكَر أنَّ الاحتراز عن التنعيم أولى؛ لأن النفس إذا اعتادت التنعيم صعب عليها الاحتراز والانقياد وحينئذ ربّما حمله المَيْلُ إلى تلك الطيبات على فعل ما لا يَنْبَغِي. روى عمر ( رضي الله عنه ) »
قال : دخلت على رسول الله ﷺ فإذا هو على زُمّالٍ حَصِيرٍ قد أثر الزّمّال بجنبه فقلت يا رسول الله : ادعه الله أن يُوسِّعَ على أمتك، فإنَّ فارساً والرومَ قد وسع عليهم وهم يعبدون غير الله فقال : أولَئِكَ قوم قد عُجِّلَتْ لهم طيباتهم في الحياة الدنيا « وروت عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : ما شبع آل محمد ﷺ من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قُبضَ رسول الله ﷺ وعنها قالت : لقد كان يأتي علينا الشَّهْرُ ما نُوقِدُ فيه ناراً ما هو إلا الماء والتمز.


الصفحة التالية
Icon