ثم إنهم لما استمعوا القرآن حتى فرغ من تلاوته ﴿ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم ﴾ انصرفوا إليهم « مُنْذِرِينَ » مخوفين داعين بأمر رسول الله صلى لله عليه وسلم وذلك لا يكون إلا بعد إيمانهم، لأنهم لا يَدْعُونَ غيرهم إلى سماع القرآن، والتصديق به، إلا وقد آمنوا. وعند ذلك ﴿ قَالُواْ ياقومنآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ أي لكتب الأنبياء، وذلك أن كتب سائر الأنبياء كانت مشتملةً على الدعوة إلى التوحيد والدعوة إلى النبوة والمَعَاد وتطهير الأخلاق، وكذلك هذا الكتاب مشتمل على هذه المعاني وهو معنى قوله ﴿ يهدي إِلَى الحق وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾.
فإنْ قيل : كيف قالوا : من بعد موسى، ولم يقولوا : من بعد عيسى؟
فالجواب : أنه روي عن عطاءٍ والحسن أنه كان دينهم اليهودية فلذلك قالوا : إنا سمعنا كتاباً أنزل بعد موسى. وعن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) أن الجنَّ ما سمعت أمر عيسى فلذلك قالوا : من بعد موسى ثم إن الجن لما وصفوا القرآن بهذه الصفات الفاضلة قالوا يا قومنا أجيبوا دَاعِيَ الله « يعني محمَّداً ﷺ.
فصل
دلت هذه الآية على أنه صلى الله عليه سولم كان مبعوثاً إلى الجِنِّ كما كان مبعوثاً إلى الإنْسِ.
قال مقاتل : لم يبعث الله نبياً إلى الإنس وإلى الجن قبله.
فإن قيل : قوله ﴿ أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله ﴾ أمر بإجابته في كل ما أمر به فيدخل فيه الأمر بالإيمان فكيف قال : وآمنوا به » ؟
فالجواب : أفاد ذكر الإيمان على التعيين، لأنه أهم الأقسام وِأشرفها وقد جرت عادة القرآن الكريم بأنه يذكر اللفظ العام ثم يعطف عليه أشرف أنواعه، كقوله :﴿ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ﴾ [ البقرة : ٩٨ ] وقوله ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ ﴾ [ الأحزاب : ٧ ] ولما أمر بالإيمان به ذكر فائدة ذلك الإيمان فقال :﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ قال بعضهم : كلمة « من » هنا زائدة والتقدير : يغفر لكم ذُنُوبَكُمْ، وقيل : بل فائدته أن كلمة « من » هنا لابتداء الغاية والمعنى أنه يقع ابتداء الغفران بالذنوب ثم ينتهي إلى عَفْوِ ما صدر عنكم من ترك الأَوْلَى والأكمل. ويجوز أن تكون تبعيضيةً.
قوله :﴿ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) فاستجاب لهم من قومهم نحو سبعينَ بَعْلاً من الجن فَرَجَعُوا إلى رسول الله ﷺ فوافقوه في البَطْحَاء فقرأ عليهم القُرْآنَ وأمرهم ونَهَاهُمْ.
فصل
اختلفوا في أن الجن هل لهم ثواب أم لا؟ فقيل : لا ثَوَابَ لهم إلا النجاة من النار، ثم يقال لهم : كُونُوا تراباً مثلَ البهائم. واحتجوا على ذلك بقوله :( ويُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) وقو قول أبي حنيفة والصحيح أن حكمهم حكم بني آدم يستحقون الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية.