ومنها : أن لا يتوهم متوهم أن المخاطبَ ثانياً غير المخاطب الأول، فإن من الجائز أن يقول القائل : يا زيدُ افعلْ كذا وكذا يا عمرو، فإذا أعادة مرة أخرى وقال : يا زيد قل كذا ( يا زيد قل كذا ( وقل كذا ) ) يعلم أن المخاطب أولاً هو المخاطب ثانياً. ومنها أن يعلم أن كل واحد من الكلامين مقصود، وليس الثاني تأكيداً للأول كقولك : يَا زَيْدُ لا تَنْطٌ ولا تَتَكَلَّم إلا الحق فإنه لا يحسن أن تقول : يا زيدُ لا تَنْطقْ يا زيدُ لا تَتَكَلَّمْ كما يحسن عند اختلاف المطلوبين.

فصل


قوله :﴿ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي ﴾ يحتمل أن يكون المراد حقيقة رفع الصوت، لأن ذلك يدل على قلة الاحتشام، وترك الاحترام، وهو أن رفع الصوت يدل على عدم الخَشْيَة؛ لأن من خَشِيَ قلبُه ارْتَجَفَ وَضَعُفَتْ حركته الدافعة فلا يخرج منه الصوت بقوة، ومن لم يخف ثبت قلبه وقويت حركته الدافعةُ، وذلك دليلٌ على عدم الخشية. ويحتمل أن يكون المراد المنع من كثرة الكلام، لأن من كَثُر كلامه يكون متكلماً عند سكوت الغير فيبقى لصوته ارتفاعٌ وإن كان خائفاً فلا ينبغي أن يكون لأحد عند النبي ﷺ كلامٌ كثير بالنسبة إلى كلام النبي ﷺ لأن النبي ﷺ مُبَلِّغ فالمتكلمُ عنده إن أراد الإخبار لا يجوزُ له، وإن سأل فإن النبي ﷺ لَمَّا وجب عليه البيان فهو لا يسكت عما سُئل، وإن لم يُسْأَل فربما يكون في الجواب تكليف لا يسهل على المكلف الإتيان به فيبقى في ورْطَة العِقَاب كما قال تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ [ المائدة : ١٠١ ].
ويحتمل أن يكون المراد رفع الكلام بالتعظيم، أي لا تجعلوا لكلامكم ارتفاعاً على كلام النبي ﷺ في الخطاب. والأول أوضح والكل يدخل في المراد. قال المفسرون : معناه بَجِّلُوه وفَخّموهُ ولا ترفعوا أصواتكم عنده ولا تنادوه كما ينداي بعضكم بعضاً. روى أنس بن مالك ( رضي الله عنه ) قال :« لما نزل قوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي ﴾ جلس ثابتُ بنُ قيسٍ في بيته، وقال : أنا من أهل النار واحتَبَسَ عن النبي ﷺ فسأل النبي ﷺ سعدَ بْنَ معاذ فقال : يا أبا عمرو ما شأنُ ثابت اشتكى؟ فقال سعدٌ : إنه لَجَارِي وما علمت له شكوى قال : فأتاه سعدٌ فَذَكَر له قوله النبي ﷺ فقال ثابتٌ : أُنْزِلَتْ هذه الآية ولقد عَلِمْتُمْ أنِّي من أَرْفَعِكُمْ صوتاً عَلَى رسول الله ﷺ وأنا من أهل النار فذكر ذلك سعدٌ للنبي ﷺ فقال رسول الله ﷺ بل هو من أهل الجنة ».


الصفحة التالية
Icon