الثالث : أن يتعلق بمحذوف، كأنه قيل : هذا الحصر لأجل من سأل : في كم خلقت الأرض وما فيها؟.
قوله ( تعالى ) :﴿ ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ ﴾ أي عمد إلى خلق السماء. وقال ابن الخطيب : من قولهم : استوى إلى مكان كذا إذا توجَّه إليه توجُّهاً لا يلتفتُ معه إلى عمل آخر وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج. ونظيره قولهم : استقام إليه وامتدَّ إليه، قال تعالى :﴿ استقيموا إِلَيْهِ ﴾ [ فصلت : ٦ ] والمعنى : ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السموات بعد خلق الأرض ما فيها من صارفٍ يصرفُهُ عن ذلك. والدُّخان : هو ما ارتفع عن لهب النار. ويستعار لما يرى من بُخار الأرض عند جدبها وقياس جمعة في القلة أَدْخِنَةٌ وفي الكثرة دُخْيَان، نحو : غُرابٍ وأغربة وغِرْبَانٍ وشذوا في جمعه على : دَوَاخِن، قيل : هو جمع داخِنةٍ تقديراً على سبيل الإسناد المجازيّ، ومثله عثانٌ وعواثِن.
وقوله : و « هِيَ » دُخَان « من باب التشبيه الصُّوري؛ لأن صورتها صورة الدُّخانِ في رأي العين.
فصل
قال المفسريون : هذا الدخان بُخار الماء وذلك أن عرش الرحمن كان على الماء قبل خقل السموات والأرض، كما قال تعالى :﴿ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء ﴾ [ هود : ٧ ].
ثم إن الله تعالى أحدث في ذلك الماء اضطراباً فأزْبَدَ وارتفع، وخرج منه دُخانٌ فأما الزَّبدُ فبقي على وجه الماء فخلق منه اليبوسة وأحدثَ منه الأرض، وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق منه السَّموات.
فإن قيل : قوله تعالى ﴿ ثم استوى إلى السماء وهي دخان ﴾ يُشعر بأن تخليق السماء حصل بعد تخليق الأرض، وقوله تعالى ﴿ والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾ [ النازعات : ٣٠ ] يشعر بأن تخليص الأرض حصل بعد تخليق السماء وذلك يوجب التناقض!
فالجواب : المشهور أن يقال : إنه تعالى خلق الأرض أولاً، ثم خَلَقَ بعنده السماء، ثم بعد أن خَلَقَ السماء دحى الأرض، وبهذه الطريق يزول التناقض. قال ابن الخطيب : وهذا الجواب عندي مُشكِلٌ من وجوه :
الأول : أنه تعالى خَلَقَ الأرض في يومين، ثم إنه في اليوم الثالث جعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها، وهذه الأحوال لا يمكن إدخالها في الوجود، إلا بعد أن صارت الأرض منبسطة ثم إنه تعالى قال بعد ذلك :﴿ ثُمَّ استوى إِلَى السمآء ﴾ فهذا يقتضي أنه تعالى خلق السماء بعد خلق الأرض، وبعد أن جعلها مدحُوَّةً وحينئذ يعود السؤال.
الثاني : أنه ورد أنَّ الدلائل الهندسية دلَّت على أن الأرض كرةٌ في أول حدوثها إن قلنا : إنها كرة، والآن بقيتْ كرة أيضاً فهي منذ خقلت كأنها مدحُوَّةٌ، وإن قلنا : إنها غير كرة ثم جعلت كرة فيلزم أن يقال : إنها كانت مدحُوَّةً قبل ذلك، ثم أزيل عنها هذه الصفة وذلك باطل.
الثالث : أن الأرض جسمٌ في غاية العِظم والجسم الذي يكون كذلك فإنه من أول دخوله في الوجود يكون مدحوَّا، فالقول بأنها كانت غير مدحوةٍ ثم صارت مدحوة قولٌ باطل.