قوله :﴿ ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ ﴾. وقرأ العامة « ائتيا » أمراً من الإتيان « قَالَتَا أَتَيْنَا » منه أيضاً. وقرأ ابن عباس وابن جبيرٍ ومجاهدٌ « آتِيا » قَالَتَا آتينا بالمد فيهما وفيه وجهان :
أحدهما : من المؤاتاة وهي المُوافقة، أي ليوافق كل منكما الأخرى لما يليق بها.
وإليه ذهب الرازي والزَّمخشريُّ، فوزن « آتِيَا » فاعلا، كقاتِلا، و « آتيْنَا » وزنه فاعلنا كقاتلنا.
والثاني : أنه من الإيتاء بمعنى الإعطاء، فوزن « آتِيَا » أفْعِلاَ كأكرما، ووزن « آتينا » أَفْعَلْنَا كأَكْرَمْنَا. فعلى الأول يكون قد حذف مفعولاً، وعلى الثاني قد حذف معفولين؛ إذ التقدير أعطيا الطاعة من أنفسكما مَنْ أمركما، قالتا أَعطيناهُ الطاعة. وقد منع أبو الفضل الرازي الوجه الثاني فقال : آتينا بالمَدِّ على فاعلنا من المؤاتاة بمعنى سارعنا، على حذف المعفول به، ولا يكون من الإيتاء الذي هو الإعطاء لبعد حذف مفعوليه.
قال شهاب الدين : وهذا هو الذي منع الزمخشري أن يجعله من الإتياء. قوله :﴿ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ﴾ مصدران في موضع الحال، أي طائعتين أو مُكْرهتين.
وقرأ الأعمش « كُرْهاً » بالضم، وتقدم الكلام على ذلك في النساء. وقله :« قَالَتَا : أي قالت السماءُ والأرض، وقال ابن عطية :( رحمة الله عليه ) أراد الفرقتين المذكورتين، جعل السموات سماءً والأرضين أرضاً كقوله :
عبر عنهما » بتَبَايَنَتَا «. قال أبو حيان وليس كما ذكر لأنه لم يتقدم إلا ذكر الأرض مفردة والسماء مفردة فلذلك حسن التعبير بالتثنية.٤٣٥٤ أَلَمْ يحْزُنْكَ أَنَّ حِبَالَ قَوْمِي وَقَوْمِكَ قَدْ تَبَاينتا انقِطَاعاَ
وأما البيت فكأنه قال : حَبْلَي قَوْمِي وَقَوْمِكَ، وأنث في تَبَايَنَتَا على المعنى؛ لأنه عنى بالحبال المودة. قوله :» طَائِعِينَ « في مجيئه مجيء جمع المذكورين العقلاء وجهان :
أحدهما : أن المراد يأتينا من فيهما من العقلاء وغيرهم، فلذلك غلَّب العقلاء على غيرهم، وهو رأي الكسائيِّ.
والثاني : أنه لما عاملهم معاملة العقلاء في الإخبار عنهما، والأمر لهما جمعهما كجمعهم، كقوله :﴿ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ [ يوسف : ٤ ] وهل هذه المحاورة حقيقة أو مجازاً وإذا كانت مجازاً فهل هو تمثيلٌ أو تخييلٌ؟. خلاف.
فصل
ظاهر هذا الكلام يقتضي أن الله تعالى أمر السماء والأرض بالإيمان فأطاعُوهُ وهذا ليس بمستبعد كما أن الله تعالى أنطقَ الجبالَ مع داود ﷺ فقال :﴿ ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ والطير ﴾ [ سبأ : ١٠ ] وأنطق الأيدي والأرجل، فقال :﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ النور : ٢٤ ] وقوله :﴿ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [ فصلت : ٢١ ] ٍ وإذا كان كذلك فكيف يستبعدُ أن يخلقَ الله تعالى في ذات السموات والأرض حياةً وعقلاً ثم يوجه التكليف عليهما؟ ويؤكد هذا وجوه :
الأول : أن الأصل حمل اللفظ على ظاهره، إلا إن منع منه مانع، فههنا لا مانع.