قوله :« مِنْهُمْ » أي يعرفون نَسَبَهُ وصدقه وأَمَانَتَهُ، وهذا يصلح أن يكون مذكوراً لتقرير تَعَجُّبهمْ ويصلح أن يكون مذكوراً لإبطال تَعَجبهم، أما وجه تقرير تعجبهم فلأنهم كانوا يقولون :﴿ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ ﴾ [ القمر : ٢٤ ] و ﴿ قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا ﴾ [ يس : ١٥ ] وذلك إشارة إلى أنه كيف يجوز اختصاصه بهذه المنزلة الرفيعة مع اشتراكنا في الحقيقة واللوازم؟ وأما تقدير الإبطال فلأنه إذا كان واحداً منهم ويرى بين أظهرهم وظهر منه ما عجزوا عنه كلهم ومن بعدهم فكان يجب عليهم أن يقولوا : هذا ليس من عنده ولا من عند أحد من جِنْسنَا فهو من عند الله بخلاف ما لو جاءهم واحدٌ من خلاف جنْسهم، وأتى بما يعجزون عنه فإنهم كانوا يقولون : نحن لا نقدر على ذلك، لأن لكل نوع خاصيةً كما أن النّعامة تبلع النَّار، وابن آدم لا يقدر على ذلك.
قوله :﴿ فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ ﴾ قال الزمخشري : هذا تعجّبٌ آخرُ من أمر آخرَ، وهو الحشر الذي أشار إليه بقوله :﴿ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ﴾ فتعجبوا من كونه منذراً ومن وقوع الحَشْر، ويدل عليه قوله في أول « ص » :﴿ وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ ﴾ [ ص : ٤ ] وقال :﴿ أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [ ص : ٥ ] فذكر تعجبهم من أمرين. قال ابن الخطيب : والظاهر أن قولَهم هذا إشارة إلى مجيء المنذر لا إلى الحشر، لأن هناك ذكر : إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ بعد الاستفهام الإنكاري فقال :﴿ أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [ ص : ٥ ] وقال ههنا : إنَّ ﴿ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ ﴾، ولم يكن هناك ما تقع الإشارة إليه إلا مجيء المنذر، ثم قالوا :« أَئِذَا متْنَا »، وأيضاً أن ههنا وُجد بعد الاستبعاد بالاستفهام أَمرٌ يؤدي معنى التعجب، وهو قولهم :﴿ ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ﴾ ؛ فإنه استبعاد وهو كالتعجب فلو كان التعجب أيضاً عائداً إليه لكان كالتكرار.
فإن قيل : التكرار الصريح يلزم من قولك :﴿ هذا شيء عجيب ﴾ يعود إلى مجيء المنذر فإن تعجبهم منه علم من قوله :﴿ وعجبوا أن جاءهم ﴾ فقوله :﴿ هذا شيء عجيب ﴾ ليس تكراراً!.
نقول : ذلك ليس بتكرار، بل هو تقرير؛ لأنه لما قال : بل عجبوا بصيغة الفعل وجاز أن يتعجب الإنسان مما لا يكون عجباً كقوله ( تعالى ) :﴿ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله ﴾ [ هود : ٧٣ ] ويقال في العرف : لا وجه لِتَعَجُّبِكَ مما ليس بعجب، فكأنهم لما عجبوا قيل لهم : لا معنى لتَعَجُّبِكُمْ، فقالوا : هذا شيء عجيب فكيف لا نعجب منه؟! ويدل على ذلك قوله تعالى ههنا :﴿ فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ ﴾ بحرف الفاء وقال في « ص » :﴿ وقال الكافرون هذا ساحر ﴾ بحرف الواو فكان نعتاً غير مرتب على ما تقدم، وهذا شيء عجيب أمر مرتب على ما تقدم، أي لما عجبوا أنكروا عليهم ذلك فقالوا : هذا شيء عجيب كيف لا نعجب منه؟ ويدل عليه أيضاً قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ﴾ بلفظ الإشارة إلى البعيد.