﴿ وَهُوَ الخلاق العليم ﴾ [ يس : ٨١ ]. حيث جعل العلم مدخلاً في الإعادة وهذا جواب لِمَا كانوا يقولون :﴿ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض ﴾ [ السجدة : ١٠ ] أي أنه تعالى كما يعلم أجزاءهم يعلم أعمالهم فيرجعهم ويعذبهم بما كانوا يقولون وبما كانوا يعملون.
قوله تعالى :﴿ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ﴾ أي محفوظ من الشياطين ومن أن يَدْرِس أو يتغيَّر. وهو اللوح المحفوظ. وقيل : معناه حافظ لعدتهم وأسمائهم وأعمالهم : قال ابن الخطيب : وهذا هو الأصحّ؛ لأن الحفيظ بمعنى الحافظ وارد في القرآن قال تعالى :﴿ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ [ هود ٨٦ ] وقال :﴿ الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ﴾ [ الشورى : ٦ ] ولأن الكتاب للتمثيل ومعناه : العلم عندي كما يكون في الكتاب، فهو يحفظ الأشياء وهو مستغن عن أن يحفظ.
قوله تعالى :﴿ بَلْ كَذَّبُواْ ﴾ هذا إضراب ثانٍ، قال الزمخشري : إضراب أتبع للإضراب الأول للدلالة على أنهم جاؤوا بما هو أفظع من تعجبهم وهو التكذيب بالحق. وقال أبو حيان : وكان هذا الإضراب الثاني بدلاً من الأوّل. قال شهاب الدين : وإطلاق مثل هذا في كتاب الله لا يجوز ألبتة. وقيل : قبل هذه الآية جملة مضرب عنها تقديرها : ما أجازُوا النظر بَلْ كَذَّبوا. وما قاله الزمخشري أحسَنُ.

فصل


في المضروب عنه وجهان :
أحدهما : أنه الشكّ تقديره : والقرآن المجيد إنَّك لَمُنْذرٌ، وإنهم شكوا فيك بل عجبوا بل كذبوا.
والثاني : تقديره : لم يكذب المنذر بل كذبوا هم.
وفي المراد بالحق وجوه :
الأول : البرهان القائم على صدق الرسول - ( ﷺ - ).
الثاني : الفرقان المنزلُ وهو قريب من الأول؛ لأنه برهانٌ.
الثالث : السورة الثابتة بالمعجوة القاهرة فإِنَّها حَقٌّ.
الرابع : الحشر الذي لا بد من وقوعه فهو حق.
فإن قيل : ما معنى الباء في قوله تعالى :( بالحَقِّ ) ؟ وأيةُ حاجة إليها؟ يعني أن التكذيبَ متعدٍّ بنفسه فهلْ هي التعدية إلى مفعول ثانٍ أو هي زائدة كما هي قوله تعالى :﴿ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ المفتون ﴾ [ القلم : ٥ و ٦ ].
فالجواب : أنها في هذا الموضع لإظهار التعدية؛ لأن التكذيب ( هو النسبة إلى الكذب ) لكن النسبة توجد تارة في القائلِ وأخرى في القول، تقول : كَذَّبَنِي فلانٌ وكنت صادقاً ويقول : كَذَّبَ فلانٌ قَوْلِي، ويقال : كَذَّبَه أي جعله كاذباً وتقول : قلتُ لفلان : زيدٌ يجيء غداً، فتأخر عمداً حتى كَذَّبَنِي أو كذب قولي. والتكذيب في القائل يستعمل بالباء وبدونها قال تعالى :﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين ﴾ [ الشعراء : ١٤١ ] وقال ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر ﴾ [ القمر : ٢٣ ] وفي القول كذلك غيرَ أن الاستعمال في القائل بدون الباء أكثر قال تعالى :﴿ فَكَذَّبُوهُ ﴾ [ الأعراف : ٦٤ ] وقال :﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ ﴾ [ فاطر : ٤ ]. وفي القول الاستعمال بالباء أكثر قال تعالى :﴿ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا ﴾ [ القمر : ٤٢ ] وقال :﴿ كَذَّبُواْ بالحق ﴾ [ ق : ٥ ]. وقال :﴿ وَكَذَّبَ بالصدق ﴾ [ الزمر : ٣٢ ].
والتحقيق فيه أن الفعل المطلق هو المصدر، لأنه هو الذي يصدر من الفاعل، فإن من ضَرَبَ لم يصدر منه غير الضَّرب، غير أن له محلاً يقع فيه يسمى مضروباً.


الصفحة التالية
Icon