قوله :« قَالَ قَرِينُهُ » جاءت هذه بلا واو؛ لأنها قصد بها الاستئناف كأن الكافر قال : ربِّ هُو أطغاني فقال قرينه : مَا أَطْغَيْتُهُ بخلاف التي قبلها فإنها عطفت على ما قبلها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول أعني مجيء كل نفس مع المَلَكَيْن وقول قرينه ما قال. قال ابن الخطيب : جاءت هذه بلا واو وفي الأولى بالواو العاطفة لأن في الأولى إشارة وقعت إلى معنيين مجتمعين، فإن كل نفس في ذلك الوقت يجيء معها سائقٌ وشهيد فيقول الشهيد ذلك القول، وفي الثاني لم يوجد هناك معنيان مجتمعان حتى يذكر بالواو، فإن الفاء في قوله :﴿ فَأَلْقِيَاهُ فِي العذاب ﴾ [ ق : ٢٦ ] لا يناسب قوله :« قَالَ رَبَّنَا مَا أطْغَيْتُهُ » فليس هناك مناسبة مقتضية للعطف بالواو.
فصل
هذا جواب لكلام مقدر، كأن الكافر حين يلقى في النار يقول : ربنا أطغاني شَيْطَانِي، فيقول الشيطان : ربنا ما أطغيته بدليل قوله تعالى :﴿ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ ﴾ ؛ لأنَّ المخاصمة تستدعي كلاماً من الجانبين ونظيره قوله تعالى في سورة « ص » :﴿ قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ ﴾ [ ص : ٦٠ ] إلى قوله :﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار ﴾ [ ص : ٦٤ ]. قال الزمخشري : وهذا يدل على أن المراد بالقرين في الآية المتقدمة هو الشيطان لا الملك الذي هو شهيد وقعيدٌ، وعلى هذا فيكون قوله :﴿ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ ﴾، مناقضاً لقوله : أعتدته.
قال ابن الخطيب : وللزمخشري أن يُجِيبَ بوجهين :
أحدهما : أن يقول ( إن قول ) الشيطان : أعتدته بمعنى زَيَّنْتُ له.
والثاني : أن تكون الإشارة إلى حالين، ففي الحالة الأولى أنا فعلت به ذلك إظهاراً للانتقام مِنْ بني آدم وتصحيحاً لقوله :﴿ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ ص : ٨٢ ] ثم إذا رأى العذاب وهو معه مشترك يقول : رَبَّنَا ما أَطْغَيْتُه فيرجع عن مقاله عند ظهور العذاب. قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومقاتل : المُرادُ بالقرينِ هنا : الملك أي يقول الكافر : ربِّ إن الملك زاد عليّ في الكتابة فيقول الملك : رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتهُ يعني ما زدت عليه وما كتبت إلا ما قال وعمل ﴿ ولكن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ ﴾ أي طويل لا يرجع عنه إلى الحق.
فإن قيل : القائل هنا واحد وقال : رَبَّنَا ما أطغيته ولم يقل : ربِّ وفي كثير من المواضع القائل واحد وقال : ربّ، كقوله :﴿ رَبِّ أَرِنِي ﴾ [ البقرة : ٢٦٠ ] وقال نوح :﴿ رَّبِّ اغفر لِي ﴾ [ نوح : ٢٨ ] ﴿ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض ﴾ [ نوح : ٢٦ ] ﴿ رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ ﴾ [ يوسف : ٣٣ ] ﴿ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً ﴾ [ التحريم : ١١ ] « رَبِّ فَأَنْظِرْنِي ».
فالجواب : أن في جميع تلك المواضع القائل طالب، ولا يحسن أن يقول الطالب يا رب أعطني وإنما يحسن أن يقول : أعطِنا لأن كونه :« رَبًّا » لا يناسب تخصيصَ الغَالِبِ. وأما هنا فالموضع موضع هبة وعظَمة وعرض حال فقال : ربنا ما أطغيته.