قوله تعالى :﴿ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً ﴾ هذا التفات من خطابهم بقوله :« قُلْ أَئِنَّكُمْ » إلى الغيبة لفعلهم الإعراض، أعرض عن خطابهم وهو تناسب حسنٌ، والمعنى أن الحجة قد تمت على أكمل الوجوه، فإن بقُوا مصرِّين على الجهل لم يبق حينئذ علاجٌ ف يحقهم إلا إنزال العذاب عليهم، فلهذا قال :﴿ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾، أي هلاكاً مثلَ هلاكِهِمْ، والإنذار التخويف.
قال المبرد : الصاعقة المرة المهلكة لأي شيءٍ كان. وقرأ الجمهور : صاعِقَةً مثل صََاعِقَةِ بالألف فيهما. وابنُ الزبير والنَّخعيُّ والسُّلميُّ وابن محيصنٍ : صعقةٌ مثل صعقةِ محذوف الألف وسكون العين. وتقدم الكلام في ذلك في أوائل البقرة. يقال : صعقته الصاعقة فصعق. وهذا مما جاء فيه فعلتُهُ بالفتح ففعل بالكسر. ومثله : جذَعتُهُ فجذعَ. قال الزمخشري : والصَّعقَةُ المرة من الصَّعق.
قوله :« إذْ جَاءَتْهُم » فيه أوجه :
أحدها : أنه ظرف « لأنْذَرْتُكُم »، نحو : لقيتك إذ كان كذا.
الثاني : أنه منصوب بصاعقه، لأنها بمعنى العذاب، وأي أنذرتكم العذاب الواقع في وقت مجيء رُسُلهم.
الثالث : أنه صفة لصاعقة الاولى.
الرابع : أنه حال من « صاعقة » الثانية، قالهما أبو البقاء. وفيه نظر إذ الظَّاهِرُ أنَّ الصَّاعِقَة جُثَّةٌ وهي قطعة نار تنزل من السماء فتحرق كما تقدم تفسيرها، ولا يقع الزمان صفة لها، ولا حالاً عنها، وتأويلها بمعنى العذاب إخراجٌ لها عن مدلولها من غير ضرورةٍ، وإنما جعلها وصفاً للأولى، لأنها نكرة، وحالاً من الثانية معرفة لإضافتها إلى علم، ولو جعلها حالاً من الأولى لأنها تخصصت بالإضافة لجاز. فتعودُ الأوجهُ خمسةً.
قوله :﴿ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ﴾ الظاهر أن الضَّميرين عائدان على عاد وثمود. وقيل : الضمير في « خَلْفِهِمْ » يعودُ على الرسل واستُبعد هذا من حيث المعنى؛ إذ يصير التقدير : جاءتهم الرسل من خلق الرسل أي من خلف أنفسهم، وقد يجاب عنه بأنه من باب : دِرْهَمٌ ونصفُهُ، أي ومن خلف رسُلٍ أخرين.
قوله :﴿ أَلاَّ تعبدوا ﴾ يجوز في « أن » ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أن تكمون المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوفٌ، الجملة النهيية بعدها خبر، كذا أعربه أبو حيان وفيه نظر من وجهين :
أحدهما : أنَّ المخففة ( من الثقيلة ) لا يقع بعدها فعلٌ إلا من أفعال اليقين.
والثاني : أن الخبر في باب إنَّ وأخواتها لا يكون طلباً، فإن ورد منه شيء أوِّلَ، ولذلك تأَوَّلُوا :
٤٣٥٦ إنَّ الَّذِينَ قَتَلْتُمْ أَمْسِ سَيِّدَهُمْ | لاَ تَحْسَبُوا لَيْلَهُمْ عَنْ لَيْلِكُمْ نَامَا |
٤٣٥٧ وَلَوْ أَصَابَتْ لَقَالَتْ وَهيَ صَادِقَةٌ | إنَّ الرِّيَاضَةَ لاَ تُنْصِبْكَ لِلشِّيبِ |
الثاني : أنها الناصبة للمضارع، والجملة النهيية بعدها صلتها وصلت بالنهي كما توصل بالأمر في كتبتُ إليه بأن قُم.