فإذا قلت : مَا ضَرَبَهُ لم يوجد منه فعل حتى يتعلق به ويتعدى إليه، لكن النفي محمول على الإثبات، فإذا ثبت هذا فالنفي بالنسبة إلى الإثبات كاسم الفاعل بالنسبة إلى الفعل فإنه يعمل عَمَل الفعل لكن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل فلا تقول : زَيْداً ضاربٌ عَمْراً أمس، وتقول : زَيْدٌ ضَاربٌ عَمْراً غداً واليَوْمَ والآنَ؛ لأن الماضي لم يبقَ موجوداً ولا مُتوقَّع الوجود، فلا يتعلق بالمفعول حقيقة، لكن الفعل لقوته واسم الفاعل لضعفه لم يَعْمَلْ.
إذا عرف هذا فقوله : مَا ضَرَبْتُ للنفي في الماضي، فاجتمع فيه النفي والمضيّ فَضَعُفَ. وأما : لَمْ أَضْرِبْ فإِن كان يقلب المستقبل فوجد فيه ما وجد في قول القائل : زَيْدٌ ضَارِبٌ عَمْراً غَداً فأُعْمِلَ.
قال ابن الخطيب : غير أن القائل بذلك القول يقول : قليلاً ليس منصوباً بقوله : يَهْجَعُونَ، وإِنما ذلك خبر ( كانوا؛ أي ) كانوا قَلِيلِينَ.
فصل
تقديم قليلاً في الذكر ليس لمجرد السَّجع حتى يقع يهجعون ويستغفرون في آخر الآيات، بل لأن الهجوع راحة لهم والمقصود بيان اجتهادهم وتحملهم السهر لله تعالى، فلا يناسبه تقديم ( راحتهم )، وقد يَغْفَلُ السامع عما بعد الكلام فيعتقد كونهم محسنين بسبب هجوعهم، فقدم قوله :« قَلِيلاً » ليسبق إلى الفهم أولاً قلَةُ الهجوع وقوله :« مِنَ اللَّيْل » إشارة إلى أنه الزمن الذي يهجع الناس فيه ولا يسهر في الطاعة إلا متعبد.
فإن قيل : الهجوع لا يكون إلا بالليل والنوم نهاراً لا يقالُ له : هُجُوع!.
فالجواب : أن ذِكرَ العام وإِردافه بالتخصيص حَسَنٌ، تقول : رأيتُ حَيَوَاناً نَاطِقاً فَصِيحاً. وأما ذكر الخاص وإردافه بالعام فلا يَحْسُن إلا في بعض المواضع، فلا تقول : رأيتُ ناطقاً فصيحاً حيواناً.
وإذا عرف هذا فقوله تعالى : كَانُوا قليلاً من الليل ذكر أمراً هو كالعام يحتمل أن يكون بعده : كَانُوا من الليل يسبحون أو يستغفرون أو يسهرون، أو غير ذلك، فلما قال : يَهْجَعُون فكأنه خصّص ذلك بالأمر العام المحتمل له ولغيره فأَزَال الاحْتِمَال.
قوله :« وَبِالأَسْحَارِ » متعلق ب « يَسْتَغْفِرُونَ »، والباء بمعنى « فِي ». وقدم متعلق الخبر على المبتدأ لجواز تقديم العامل.
فصل
معنى قوله :﴿ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ ﴾ أي يصلون أكثر الليل. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس : يعني كانوا قل ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها شيئاً إما من أولها وإما من أوسطها. وقال أنس بن مالك : كانوا يصلون العَتَمَةَ.