وقوله :« مِنْ طِينٍ » أي ليست من البَرَدِ والفاعلُ لذلك هُو اللَّهُ تعالى لا كما يقول الحكماء فإنهم يقولون : إن البَرَد يسمى حجارة فقوله :« مِنْ طِينٍ » يدفع ذلك التَّوَهُّمَ.
قال ابن الخطيب : إن بعض من يَدَّعي العَقل ( يقول ) : لا ينزل من السماء إلا حجارة من طين مدوَّرات على هيئة البَرد وهيئة البَنَادِق التي يتخذها الرماة، قالوا : وسبب ذلك أن الإعصار يصعد الغُبَار من الفلَوَاتِ العظيمة التي لا عِمَارَةَ فيها والرياح تسوقها إلى بعض البلاد ويتفق ( وصول ) ذلك إلى هواء نَدِيّ فيصير طيناً رَطْباً، والرطب إذا نزل وتفرق استدار بدليل أنك إذا رميت الماء إلى فوق ثم نظرت إليه رأيته ينزل كراتٍ مُدَوَّرَاتٍ كاللآلئِ الكِبَار ثم في النزول إذا اتفق أن تضربه النيران التي في الجو جعلته حجارة كالآجُرّ المطبوخ فينزل فيصيب من قدر الله هلاكه وقد ينزل كثيراً في المواضع التي لا عِمارة بها، فلا يُرى ولا يُدْرَى به فلهذا قال :« مِنْ طينٍ » لأ ( نَّ ) ما لا يكون من طين كالحجر الذي في الصواعق لا يكون كثيراً بحيث يمطر، وهذا تعسُّف، لأن ذلك الإعصار لما وقع فإن وقع بحادث آخر لزم التسلسل، ولا بدّ من الانتهاء إلى محدِث ليس بحادث فذلك المحدث لا بدّ وأن يكون فاعلاً مختاراً، والمختار له أن يفعل وله أن يَخْلُق الحِجَارة من طين على وجه آخر من غير نارٍ ولا غبارٍ، لكن العَقل لا طريق له إلى الجزم بطريق إحداثه وما لا يصل العقل إليه فلا يؤخذ إلا بالنقل والنص ومن المعلوم أن نُزُول حجارة من الطين من السماء أغرب وأعجب من غيرها.
قوله :« مُسَوَّمَةً » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه منصوب على النَّعت لِحَجَارةٍ.
الثاني : أنه حال من الضمير المستكنِّ في الجارِّ قبله.
الثالث : أنه حال من « حجارة »، وحسَّنَ ذلك كونُ النكرة وُصِفَتْ بالجارِّ بعدها.
ومعنى مسومة قيل : على كل حجر منها اسم صاحبه. وقيل : خلقت وأعدت لتعذيبهم. وقيل : مُرْسَلَة للمجرمين؛ لأن الإرسال يقال في التسويم، يقال أرسلها لِتَرْعَى، كما قيل في الخيل المُسَوَّمَةِ أي مستغنى عنها.
قوله :« عِنْد رَبِّكَ » ظرف « لمُسومَةٍ » أي معلَّمة عنده « والمُسْرِفُ » المتمادي ولو في الصغائر فهم مجرمُون مُسْرفُونَ.
وهنا لطيفة وهي أن الحجارة سُومِّتْ للمسرف المُصِرّ الذي لا يترك الذنب في المستقبل وذلك إنما يعلمه الله تعالى، فلذلك قال :﴿ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ﴾ ولما كان الإجرام ظاهراً قالوا :﴿ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ﴾ واللام في « المسرفين » لتعريف العهد، أي لِهؤلاء المسرفين؛ إذ ليس لكل مسرف حجارة مسوَّمة.
وإسرافهم بأنهم أتوا بما لم يَسْبِقْهم به أحدٌ من العَالَمِين.


الصفحة التالية
Icon