فالجواب : قال ابن الخطيب : لأن الصُّنْعَ قبل الصانع عند الناظر في المعرفة، فلما كان المقصود إثبات العلم بالصانع قدم الدليل وقال : والسَّمَاء المبنية التي لا تشُكُّون في بُنْيَانِها، فاعْرفونا بها إِن كنتم لا تَعْرِفُونَنَا.
فإن قيل : إذا كان إثبات التوحيد فكيف قال : بَنَيْنَاها، ولم يقل : بَنَيْتُها؟ ولا بناها الله؟!
فالجواب : أن قوله : بنيناها أدل على عدم الشريك، لأن الشّركة ضعيفة؛ فإن الشريكَ يمنع شَريكه عن التصرف والاستبداد، وقوله :« بَنَيْنَاهَا » يدل على العَظَمَة، وبين العظمة والضعف تنافرٌ فبين قوله :« بَنَيْنَاهَا » وبين أن يكون شريك منافاة. وتقريره أن قوله تعالى :﴿ بَنَيْنَاهَا ﴾ لا يورث إيهاماً بأن الآلهة التي كانوا يعبدونها هي التي يرجع إليها الضمير، لأن تلك إما أصنام منحوتة وإما كواكب جعلوا الأصنام على صُوَرِها وطَبائِعِهَا، فأما الأصنام المنحوتة فلا يَشكون أنها ما بنت من السماء شيئاً، وأما الكواكب فهي في السماء محتاجة إليها فلا تكون هي بانيتها؛ وإنما يقال : بُنيتْ لها وجعلت أماكنها، فلمّا لم يتوهم ما قالوا قال : بَنَيْنَا نَحْنُ ونحن غير ما يقولون ويدعونه فلا يصلحون لنا شُرَكَاءَ. ثم لما بين أن قولهم لا يُوهم شريكاً أصلاً، لأن كل ما هو غير السماء فهو محتاج إلى السماء دون السماء في المرتبة فلا يكون خالقاً للسماء ولا بانيها، فعلم أن المراد جمعُ التعظيم، فأفاد النص عظمة، والعظمة أنفى للشريك، فعلم أن قوله :« بَنَيْنَاهَا » أدلّ على نفي الشَّريك من « بَنَيْتُهَا » و « بِنَاء اللَّهِ ».
فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل : بَنَيْنَاهَا بأيدينا كما قال :﴿ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ ﴾ [ يس : ٧١ ].
فالجواب : أن ذلك لفائدة جليلة، وهي أنَّ السماء لا يخطر ببال أحد أنها مخلوقة غير الله والأنعام ليست كذلك.
فقال هناك : عملت أيدينا تصريحاً بأن الحيوان مخلوق لله تعالى من غير واسطة. وكذلك :﴿ خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾ [ ص : ٧٥ ] وفي السماء قال : بأيد من غير إضافة للاستغناء عنها.
وفيه لطيفة ( أخرى ) وهي : أن هناك لما أثبت الإضافة لم يعد الضمير العائد إلى المفعول فلم يقل خلقته ولا عملته، وأما السماء : فبعض الجهال يزعم أنها غير مجعولة، فقال : بَنَيْنَاهَا بعَوْدِ الضمير تصريحاً بأنها مخلوقة.
قوله :« وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا » أي بسطناها ومَهَّدْنَاها، وفيه دليل على أن خلق الأرض بعد خلق السماء لأن بناء البيت يكون في العادة قبل الفرش.
قوله :« فَنِعْم المَاهِدُونَ » المخصوص بالمدح محذوف لفهم المعنى، أي نَحْنُ، كقوله :﴿ نِعْمَ العبد ﴾ [ ص : ٣٠ ]، قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما - ) : معناه الباسطون أي نعم ما وطأت لعبادي.
قوله تعالى :﴿ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ يجوز أن يتعلق « بخَلَقْنَا » أي خلقنا من كل شيء زَوْجَيْن، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من :« زَوْجَيْنِ » لأنه في الأصل صفة له، إذْ التقدير خَلَقْنَا زَوْجَيْنَ كَائِنَيْن مِنْ كلِّ شيء.