﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى ﴾ [ الزمر : ٣ ] فقال تعالى :﴿ مَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ ولم يذكر الملائكة لأن الأمر فيهم كان مسلماً من القوم، فذكر المتنازع فيه.
الرابع : فعل الجن يتناول الملائكة، لأن أصل الجن من الاستتار، وهم مُسْتَتِرُون عن الخلق فذكر الجن لدخول الملائكة فيهم.
قوله :﴿ مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ ﴾ أي يرزقوا أحداً من خَلْقِي، ولا أن يرزقوا أنفسهم ﴿ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ﴾ أي يطعموا أحداً من خلقي. وإنما أسند الإطعام إلى نفسه لأن الخلق عِيالُ الله ومن أطعم عيالَ أحدٍ فقد أطعمَهُ، قال ﷺ :« اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي »، أي لم تطعم عبدي.
فصل
استدل المعتزلة بقوله تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ على أن أفعال الله تعالى معلّلة بالأغراض وأجيبوا بوجوه تقدمت منها : أن اللام قد تثبت لغير الغرض كقوله تعالى :﴿ أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس ﴾ [ الإسراء : ٧٨ ] وقوله :﴿ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ [ الطلاق : ١ ] ومعناه المقارنة فمعناه : قرنت الخلق بالعبادة أي خلقتهم، وفرضت عليهم العبادة.
ومنها : قوله تعالى :﴿ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [ الزمر : ٦٢ ] و [ الرعد : ١٦ ].
ومنها : ما يدل على أن الإضلال بفعل الله كقوله تعالى :﴿ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾ [ النحل : ٩٣ ] وأمثاله.
ومنها : قوله تعالى :﴿ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ﴾ [ الأنبياء : ٢٣ ] وقوله :﴿ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَآءُ ﴾ [ إبراهيم : ٢٧ ] و ﴿ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾ [ المائدة : ١ ].
وقوله تعالى :﴿ مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ﴾ معناه : أن النفع يعود إليهم لا لي.
فإن قيل : ما الفائدة في تكرير الإرادتين مع أن من لا يريد من أحدٍ رزقاً لا يريد أن يُطْعِمَهُ؟!.
فالجواب : أن السيِّدَ قد يطلب من العبد المتكسّب له، فيطلب منه الرزق، وقد يكون للسَّيدِ مالٌ وافر يستغني به عن التكسب لكنه يطلب من العبد قضاءَ حوائجه وإحضار الطعام بين يديه، فقال : لا أريد ذلك ولا هذا. وقد طلب الرزق على طلب الإطعام من باب الارتقاء من الأدنَى إِلى الأعلى.
فإن قيل : ما فائدة تخصيص الإطعام بالذكر مع أن المراد عدم طلب فعل منهم غير التعظيم؟!.
فالجواب : أنه لما عمم النفي في الطلب الأول بقوله :« من رزق » وذلك إشارة إلى التعميم بذكر الإِطعام ونفي الأدنى يستتبعه نفي الأعلى بطريق الأولى، فكأنه قال : ما أريد منهم من غِنًى ولا عَمَلٍ.
فإن قيل : المطالب لا تنحصر فيما ذكره فإن السيِّد قد يشتري العبد لا لطلب عمل منه، ولا لطلب رزق ولا للتعظيم، بل يشتريه للتجارة!
فالجواب : أن عموم قوله :﴿ مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ ﴾ يتناول ذلك.
قوله :« أَنْ يُطْعِمُونِ » قيل : فيه حذف مضاف أي يطعموا خَلْقِي كما تقدم في التفسير. وقيل : المعنى أن يَنْفَعُون فعبر ببعض وجوه الانتفاعات لأن عادة السادة أن ينتفعوا بعبيدهم، والله مُسْتَغْنٍ عن ذلك.