﴿ لَمَّا طَغَا المآء ﴾ [ الحاقة : ١١ ].
واعلم أن قوله :« أَمْ تَأمُرُهُمْ » متصل تقديره : أنزل عليهم ذكر أم تأمرهم أحلامهم بهذا. وفي هذه الآية إشارة إلى أن كل ما لا يكون على وَفْق العقل لا ينبغي أن يقال؛ وإنما ينبغي أن يقال ما يجب قولهُ عقلاً.
والأحلام جمع حِلم وهو العقل فهما من باب واحد من حيث المعنى لأن العقل يضبط المرء فيكون كالبعير المَعْقُول لا يتحرك عن مكانه والحِلْم من الاحتلام، وهو أيضاً سبب وقار المرء وثباته لأن الحُلم في أصل اللغة هو ما يراه النائم فينزل ويلزمه الغسل الذي هو سبب البلوغ وعنده يصير الإنسان مكلّفاً، فالله تعالى من لطيفِ حِكمته قَرَن الشهوة بالعقل وعند ظهور الشهوة يكمل العقل ويكلف صاحبه فأشار تعالى إلى العقل بالإشارة إلى ما يقارنه وهو الحِلْم ليعلم أنه يريد به كمال العقل.
قوله :﴿ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ ﴾ أي يخلق القرآن من تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، والتَّقَوُّلُ تكلّف القول ولا يستعمل إلا في الكذب وهذا أيضاً متصل بقوله تعالى :﴿ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ ﴾ تقديره : كاهن أم يقولون تقوله بالمعنى ليس الأمر كما زَعَمُوا بل لا يؤمنون بالقرآن استكباراً.
ثم ألزمهم الحُجَّة وأبطل جميع الأقسام فقال :﴿ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ ﴾ أي القُرْآنِ ونظمه ﴿ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ ﴾ أنَّ محمداً تقوَّلهُ من قِبَلِ نفسه، ولما امتنع ذلك كَذَّبوا في الكُلّ.
قوله :« فَلْيأتُوا » الفاء للتعقيب أي إذا كان كذلك فيجب عليهم أن يأتوا بمثل ما أتى بهِ لِيَصحَّ كلامُهُم ويبطل كلامه. قال بعض العلماء : وهذا أمر تعجيزٍ قال ابن الخطيب : والظاهر أن الأَمر ههنا على حقيقته لأنه لم يقل : إيتوا مطلقاً بل قال : إيتوا إن كنتم صادقين فهو أمر معلق على شرط إذا وجد ذلك الشرط يَجِبُ الإتيان به وأمر التعجيز كقوله تعالى :﴿ فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ ﴾ [ البقرة : ٢٥٨ ] وليس هذا بحثاً يورث خللاً في كلامهم.
قوله :« بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ » العامة على تنوين « حَدِيثٍ » وَوَصْفِهِ ب « مِثْلِهِ ». والجَحْدَرِيُّ وأبو السَّمَّال « بحَدِيثِ مِثْلِهِ » بإضافة حديث إلى « المِثْل » على حذف موصوف أي بحديثِ رجلٍ مِثْلِهِ من جِنْسِهِ.

فصل


قالت المعتزلة : الحديث محْدَث، والقرآن سماه حديثاً فيكون مُحْدَثاً.
وأجيبوا : بأن الحديث اسمٌ مشترك يقال للمُحْدَث والمنقول وهذا يصح أن يقال : هذا حديث قديم أي متقادم العَهْد، لا بمعنى سبب الأزلية وذلك لاَ نِزَاع فِيهِ.
فإن قيل : الصّفة تتبع الموصوف في التعريف والتنكير والموصوف هنا :« حَدِيث » وهو مُنَكَّر، و « مِثْلِهِ » مضاف إلى « القرآن » والمضاف إلى القرآن مُعَرَّف فكيف هذا؟
فالجواب : أن « مِثْلاً » و « غَيْراً » لا يتعرَّفان بالإضافة، وكذلك كل ما هو مثله كشِبْهٍ، وذلك أن « غَيْراً ومِثْلاً » وأمثالهما في غاية التنكير؛ لأنك إذا قلت :« مِثْلُ زَيْدٍ » يتناول كل شيء، فإن كل شيء مثل زيد في شيء فالحِمار مثله في الجسم والحجم والإمكان والنباتُ مثله في النُّشُوء والنَّمَاء والذّبُول والفَنَاء، والحَيَوَان مثله في الحركة والإدراك وغيرها من الأوصاف.


الصفحة التالية
Icon