فصل


قال في حق المسيء : لاَ تزِرُ وَازِرَةٌ ( وِزْرَ أُخْرَى ) وهو لا يدل إلا على عدم الحمل عن الوَازرة، ولا يلزم من ذلك بقاء الوِزر عليها من ضَرُورة اللفظ؛ لجواز أن يسقط عنها، ويمحو الله ذلك الوِزر، فلا يبقى عليها ولا يحمل عنها غيرُها، ولو قال : لا تَزِرُ ( وَازِرَةٌ ) إلا وزر نفسها لكان من ضرورة الاستثناء أنها تزر. وقال في حق المحسن :﴿ لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى ﴾ ولم يقل : ليس له ما لم يَسْعَ؛ لأن العبارة الثانية ليس فيها أن له ما سعى وفي العبارة الأولى أن له ما سعى نظراً إلى الاستثناء فقال في حق المسيء بعبارة لا تقطع رجاءَه، وفي حق المحسن بعبارة تقطع خوفه، وكل ذلك إشارةٌ إلى سَبْق الرحمةِ الغَضَبَ.
قوله [ تَعَالَى :] ﴿ وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى ﴾ العامة على فتح همزة « أَنَّ » وما عطف عليها بمعنى أن الجميع في صحف مُوسَى وإِبْرَاهِيمَ.
وقرأ أبو السَّمَّال بالكسر في الجميع على الابتداء ومعنى الآية : إن منتهى الخَلْق ومصيرَهم إليه فيجازيهم بأعمالهم. وقيل : منه ابتداء المنَّة وإليه انتهاء الآمَال. وروى أو هريرةَ مرفوعاً : تَفَكَّرُوا فِي الخَلْق وَلاَ تَفَكَّرُوا في الخَالِقِ، فَإن اللَّه لاَ يُحِيطُ بِهِ الفِكْرُ.
قال القرطبيُّ : ومن هذا المعنى قوله ﷺ :« يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ لَهُ : مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ ولْيَنْتَهِ » ولهذا أحسن من قال ( رحمة الله عليه ورضاه ) ( شعْراً ) :
٤٥٦٨- وَلاَ تُفَكِّرَنْ فِي ذَا العُلاَ عَزَّ وَجْهُهُ فَإِنَّكَ تُرْدَى إنْ فَعَلْتَ وتُخْذَلُ
وَدُونَكَ مَصْنُوعاتِهِ فَاعْتَبِرْ بِها وَقُلْ مِثْلَ مَا قَالَ الخَلِيلُ المُبَجَّلُ
وقيل : المراد من هذه الآية التوحيد.
وفي المخاطب وجهان :
أحدهما : أنه عام تقديره إلى ربك أيها السامع أو العاقل.
والثاني : أنه خطاب مع النبي - ﷺ - فعلى الأولى يكون تهديداً وعلى الثاني يكون تسليةً لقلب النبي - ﷺ -.
فعلى الأولى أيضاً تكون اللام في « المُنْتَهَى » للعهد الموعود في القرآنِ.
وعلى الثاني تكون للعموم أي إلى ربك كُلُّ مُنْتَهى.
فإن قيل : فعلى هذا الوجه يكون مُنْتَهًى، وعلى الأول يكون « مُبْتدًى ».
فالجواب : منتهى الإدراكاتِ والمُدْرَكَاتِ فإن الإنسان أولاً يُدْرِك الأشياء الظاهرة ثم يُمْعِنُ النظر فينتهي إلى الله فيقف عنده.
قوله :﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى ﴾ ( أضحك وأبكى ) ما بعده هذا يسميه البيانيون الطِّباق والتضاد وهو نوع من البديع، وهو أن يذكر ضِدّان أو نقيضان أو متنافيان بوجه من الوجوه.
و « أَضْحَك وَأَبْكَى » لا مفعول لهما في هذا الموضع؛ لأنها مسوقة لقدرة الله تعالى لا لبيان المقدور، فلا حاجة إلى المفعول كقول القائل : فُلاَنٌ بِيَدِهِ الأخذُ والعَطَاءُ يُعْطِي ويمنع ولا يريد ممنوعاً ومُعْطًى.


الصفحة التالية
Icon