والثاني : الاعتراض بقوله :« لو تعلمون » بين الصفة والموصوف.
ومنع ابن عطية أن يجعل قوله :« وإنه لقسمٌ » اعتراضاً.
فقال :« وإنه لقسم » تأكيد للأمر، وتنبيه من المقسم به، وليس هذا باعتراض بين الكلامين، بل هذا معنى قصد التهكُّم به، وإنما الاعتراض قوله :﴿ لَّوْ تَعْلَمُونَ ﴾.
قال شهاب الدين :« وكونه تأكيداً ومنبّهاً على تعظيم المقسم به لا ينافي الاعتراض، بل هذا معنى الاعتراض وفائدته ».
« والهاء » في « إنه لقرآن » تعود على القرآن، أي : إن القرآن لقسم عظيم.
قاله ابن عبَّاس وغيره.
وقيل : أي ما أقسم الله به عظيم ﴿ إنه لقرآن كريم ﴾ ذكر المقسم عليه، أي : أقسم بمواقع النجوم أن هذا القرآن قرآن ليس بسحرٍ ولا كهانة ولا بمفترى، بل هو قرآن كريم، محمود جعله الله معجزة نبيه، وهو كريم على المؤمنين؛ لأنَّه كلام ربهم وشفاء صدورهم، كريم على أهل السماء والأرض؛ لأنه تنزيل ربهم ووحيه.
وقيل :« كريم » أي : غير مخلوق.
وقيل :« كريم » لما فيه من كرم الأخلاق، ومعالي الأمور.
وقيل : لأنه يكرم حافظه، ويعظم قدره.

فصل في تحرير معنى الآية


قال ابن الخطيب :« كريم » أي : لا يهون بكثرة التلاوة؛ لأن الكلام متى أعيد وكرر استهين به، والقرآن يكون إلى آخر الدهر، ولا يزداد إلاَّ عزاً. والقرآن إما ك « الغُفْرَان »، والمراد به المفعول، وهو المقروء كقوله :[ هَذَا خلقُ اللَّه ] وإما اسم لما يقرأ ك « القُرْبَان » لما يتقرب به، والحُلْوان لما يحلى به فم الكاهن، وعلى هذا يظهر فساد قول من رد على الفقهاء قولهم في باب الزَّكاة : يعطي شيئاً أعلى مما وجب ويأخذ الجبران أو شيئاً دونه، ويعطي الجبران لأن الجبران مصدر لا يؤخذ ولا يعطى، فيقال له : هو كالقرآن بمعنى المقرُوء.
فمعنى « كريم » أي : مقروء، قرىء : ويقرأ بالفتح، فإن معنى « كريم » أي : لا يهون بكثرة التلاوة، ويبقى أبد الدَّهر كالكلام الغضِّ، والحديث الطَّري.
وهو هنا يقع في وصف القرآن بالحديث، مع أنه قديم يستمد من هذا مدداً، فهو قديم يسمعه السَّامعون كأنه كلام [ الساعة ].

فصل


قوله :﴿ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ﴾. مصون عند الله.
وقيل :« مَكْنُون » محفوظ عن الباطل، والكتاب هنا : كتاب في السَّماء.
قاله ابن عبَّاس.
وقال جابر بن زيد وابن عباس أيضاً : هو اللوح المحفوظ.
وقال عكرمة : التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن.
وقال السدي : الزَّبُور.
وقال قتادة ومجاهد : هو المصحف الذي في أيدينا.

فصل في تفسير معنى الآية


قال ابن الخطيب : قوله تعالى :﴿ فِي كِتَابٍ ﴾ يستدعي شيئاً مظروفاً للكتاب وفيه وجهان :
أحدهما : أنه القرآن، أي : هو قرآن في كتاب، كقولك :« فلان رجلٌ كريم في نفسه » لا يشك السامع بأن المراد منه أن في الدَّار قاعد، وأنه لا يريد به أنه رجل إذا كان في الدَّار غير رجل إذا كان خارجاً، ولا يشك أيضاً أنه لا يريد أنه كريم وهو في البيت، فكذلك هاهنا معناه : أنه كريم في كتاب.


الصفحة التالية
Icon