فإن قيل : قد صح في الخبر النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء؟.
فالجواب : إنما كره ذلك في حق من لا يوثق به بالصبر على الفقر، وخاف أن يتعرّض للمسألة إذا فقد ما ينفقه، فأما الأنصار الذين أثنى الله - تعالى - عليهم بالإيثار على أنفسهم، فكانوا كما قال الله تعالى :﴿ والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس ﴾ [ البقرة : ١٧٧ ].
فكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك، والإمساك لمن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار.
« كما روي أن رجلاً جاء إلى النبي بمثل البيضة من الذَّهب، فقال هذه صدقة، فرماه بها، وقال :» يَأتِي أحدُكُمْ بِجميعِ مَا يَملِكُهُ فيتصدَّق بِهِ، ثُمَّ يقعدُ فيتكفَّفُ النَّاس « انتهى.
فصل في الإيثار بالنفس
الإيثار بالنَّفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس.
ومن الأمثال :[ البسيط ]
وأفضل من الجود بالنفس الجود على حماية رسول الله ﷺ.٤٧٤٨- الجُودُ بالمَالِ جُودٌ ومكرمةٌ والجُودُ بالنَّفْسِ أقْصَى غايةِ الجُودِ
ففي الصحيح : أن أبا طلحة ترس على النبي ﷺ يوم أحد، وكان النبي ﷺ يتطلع ليرى القوم، فيقول له أبو طلحة : لا تشرف يا رسول الله، لا يصيبونك، نحري دون نحرك يا رسول الله ووقى بيده رسول الله ﷺ فشلتْ.
وقال حذيفة العدوي : انطلقت يوم » اليَرْموك « أطلب ابن عم لي [ ومعي شيء من الماء وأنا أقول : إن كان به رمقٌ سقيته، فإذا أنا به، فقلت له : أسقيك، فأشار برأسه أن نعم ]، فإذا أنا برجل يقول : آه آه فأشار إليّ ابن عمي أن انطلق إليه، فجئت إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت : أسقيك؟ فأشار أن نعم، فسمعت آخر يقول : آه آه فأشار هشام أن انطلق إليه، فجئت إليه، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.
وقال أبو اليزيد البسطامي رحمه الله : ما غلبني أحد سوى شاب من أهل » بلخ « قدم علينا حاجًّا، وقال : يا أبا اليزيد، ما حد الزهد عندكم؟.
فقلت له : إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا.
فقال : هكذا كلاب » بلخ « عندنا.
فقلت : وما حدّ الزهد عندكم؟.
قال : إذا فقدنا شكرنا، وإذا وجدنا آثرنا.
وسئل ذو النون المصري : ما حدُّ الزهد؟ قال : ثلاث، تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والإيثار عند الفوت.
وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي : أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلاً بقرية من قرى » الري « ومعهم أرغفة معدودة لا تشبح جميعهم، فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج، وجلسوا للطعام، فلما فرغوا فإذا الطعام بحاله لم يأكل أحد منهم شيئاً إيثاراً لصاحبه على نفسه.
قوله تعالى :﴿ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾.