وقد تقدمت هذه المسألة مستوفاة، وفيها كلام مكي وغيره.
إلا أن أبا حيّان اعترض على كونها صفة أو حالاً، بأنهم نهوا عن اتخاذهم أولياء مطلقاً في قوله :﴿ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ ﴾ [ المائدة : ٥١ ]، والتقييد بالحال والوصف يوهم جواز اتخاذهم أولياء إذا انتفى الحال أو الوصف.
قال شهاب الدين :« ولا يلزم ما قال، لأنه معلوم من القواعد الشرعية، فلا مفهوم لها ألبتة ».
وقال الفرَّاء :« تلقون » من صلة « أولياء ».
وهذا على أصولهم من أن النكرة توصل لغيرها من الموصولات.
قوله :« بِالمَودَّةِ ». في الباء ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الباء مزيدة في المفعول به، كقوله :﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٩٥ ]، وقوله :﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ ﴾ [ الحج : ٢٥ ].
والثاني : أنها غير مزيدة، والمفعول محذوف، ويكون معنى الباء : السببية، كأنه قيل : تلقون إليهم أسرار رسول الله ﷺ وأخباره بسبب المودة التي بينكم وبينهم. قاله الزجاج.
الثالث : أنها متعلقةٌ بالمصدر الدال عليه « تلقون » أي : إلقاؤهم بالمودة.
نقله الحوفي عن البصريين [ وجعل القول بزيادة الباء قول الكوفيين.
إلا أنَّ هذا الذي نقله عن البصريين ] لا يوافق أصولهم، إذ يلزم منه حذف المصدر وإبقاء معموله، وهو لا يجوز عندهم، وأيضاً فإن فيه حذف الجملة برأسها، فإن « إلقاءهم » مبتدأ، و « بالمَودَّةِ » متعلق به، والخبر أيضاً محذوف، وهذا إجحاف.

فصل في الكلام على الآية


قال ابن الخطيب : في الآية مباحث.
الأول : اتخاذ العدو أولياء، كيف يمكن، والعداوة منافية للمحبة؟.
والجواب : لا يبعد أن تكون العداوة بالنسبة إلى أمر آخر، ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ [ الأنفال : ٢٨ ].
وقال ﷺ :« أوْلادُنَا أكْبَادُنَا »
الثاني : لم قال :﴿ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ ﴾ ولم يقل بالعكس؟.
والجواب : أنَّ العداوة بين المؤمن والكافر بسبب محبّة الله ومحبَّة رسوله - ﷺ - فتكون محبة العبد من أصل الإيمان بحضرة الله تعالى لعلةٍ، ومحبة حضرة الله - تعالى - للعبد لا لعلة، والذي لا لعلة مقدم على الذي لعلة؛ ولأن الشيء إذا كانت له نسبة إلى الطرفين، فالطرف الأعلى مقدم على الأدنى.
الثالث : قال :« أولياء »، ولم يقل : ولي العدو أو العدو معرفاً؟.
فالجواب : أن المعرف بحرف التعريف يتناول كل فرد، فكذلك المعرف بالإضافة.

فصل


قال القرطبي : قوله :﴿ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة ﴾ يعني بالظَّاهر، لأن قلب حاطب كان سليماً بدليل أن النبي ﷺ قال لهم :« أمَّا صَاحبُكمْ فقدْ صَدَقَ »، وهذا نصٌّ في سلامة فؤاده، وخلوص اعتقاده.

فصل فيمن تطلع على عورات المسلمين


قال القرطبي : من كثر تطلّعه على عورات المسلمين، وينبه عليهم، ويعرف عدوهم بأخبارهم لم يكن بذلك كافراً إذا كان فعله ذلك لغرض دنيوي، واعتقاده على ذلك سليم، كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتخاذ اليد، ولم ينو الردة عن الدين.


الصفحة التالية
Icon