فقال سائلاً لهم :﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ﴾ أي : بأي قدرة ربكما تكذبان، وإنما كان تكذيبهم أنهم جعلوا له في هذه الأشياء التي خرجت من قدرته وملكه شريكاً يملك معه، ويقدر معه، فذلك تكذيبهم، ثم ذكر خلق الإنسان من صلصال، وذكر خلق الجانّ من مارجٍ من نارٍ، ثم سألهم فقال :﴿ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ أي : بأي قدرة ربكما تكذبان، فإن له في كل خلق قدرة بعد قدرة، فالتكرير في هذه الآيات للتأكيد، والمبالغة في التقرير، واتخاذ الحجة عليهم بما وقفهم على خلقٍ بعد خلق.
وقال القتبي : إن الله - تعالى - عدد في هذه السورة نعماءه، وذكر خلقه آلاءه، ثم أتبع كل خلّة وصفها ونعمة وضعها في هذه الآية، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين ليبينهم على النعم، ويقررهم بها، كما يقول لمن تتابع فيه إحسانك وهو يكفره وينكره : ألم تكن فقيراً فأغنيتك، أفتنكر هذا؟ ألم تكن خاملاً فعززتك، أفتنكر هذا؟ ألم تكن راجلاً فحملتك، أفتنكر هذا؟ والتكرير حسن في مثل هذا.
قال الشاعر :[ مشطور الرجز ]
٤٦٣١- كَمْ نِعْمَةٍ كَانَتْ لَكُمْ كَمْ كَمْ وكَمْ... وقال الشاعر رحمه الله :[ البسيط ]
٤٦٣٢- لا تَقْتُلِي مُسْلِماً إن كُنْتِ مُسْلمَةً | إيَّاكِ من دمِهِ إيَّاكِ إيَّاكِ |
٤٦٣٣- لا تَقْطَعَنَّ الصَّديقَ ما طَرَفَتْ | عَيْنَاكَ من قَوْلِ كَاشحٍ أشِرِ |
ولا تَمَلَّنَّ مِنْ زيَارتِهِ | زُرْهُ وَزُرْهُ وَزُرْ وَزُرْ وَزُرِ |
قال شهاب الدين : والتكرير - هاهنا - كما تقدم في قوله :﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ ﴾ [ القمر : ١٧ ]، وكقوله فيما سيأتي :﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ [ المرسلات : ٤٥ ].
وذهب جماعة منهم ابن قتيبة : إلى أن التكرير لاختلاف النِّعم، فلذلك كرر للتوقيف مع كل واحدة.
قال ابن الخطيب : وذكره بلفظ الخطاب على سبيل الالتفات، والمراد به التقريع والزَّجْر، وذكر لفظ الرب؛ لأنه يشعر بالرحمة.
قال :« وكررت هذه اللفظة في هذه السورة نيفاً وثلاثين مرة إما للتأكيد، ولا يعقل بخصوص العدد معنى.
وقيل : الخطاب مع الإنس والجن، والنعمة منحصرة في دفع المكروه، وتحصيل المقصود، وأعظم المكروهات عذاب جهنم، و ﴿ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ ﴾ [ الحجر : ٤٤ ]، وأعظم المقاصد : نعيم الجنة، ولها ثمانية أبواب، فالمجموع خمسة عشر، وذلك بالنسبة للجن والإنس ثلاثون، والزائد لبيان التأكيد ».
روى جابر بن عبد الله، قال :« قرأ علينا رسول الله ﷺ سورة » الرحمن « حتى ختمها، ثم قال :» مَا لِي أراكُمْ سُكُوتاً؟ للجِنُّ كانُوا أحسنَ مِنكُم رَدًّا؛ ما قرأتُ عليهمِ هذهِ الآية مرَّة :﴿ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ إلا قالوا : ولا بِشيءٍ من رحْمَتِكَ ربَّنا نكذِّبُ، فلكَ الحمد «.