قوله :﴿ إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب ﴾، نظيره :﴿ مَّنْ خَشِيَ الرحمن بالغيب ﴾ [ ق : ٣٣ ] وقد مضى الكلام فيه. أي : يخافون الله ويخافون عذابه الذي هو « بالغَيْبِ » وهو عذاب يوم القيامة « ويَخْشَوْنَهُ » في دار التكليف، أي : يتقون جميع المعاصي.
قال ابن الخطيب : وفي الآية دليل على انقطاع وعيد الفساق، لأن من جاء يوم القيامة مع هذه الخشية بفسق، فله الأمران، وانقطاع الثَّواب بالعقاب باطلٌ بالإجماع، فتعين العكس.
﴿ لَهُم مَّغْفِرَةٌ ﴾ لذنوبهم ﴿ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ وهو الجنَّة.
قوله :﴿ لَهْم مَّغْفِرَةٌ ﴾ الأحسن أن يكون الخَبَرَ « لَهُمْ » و « مَغْفرةٌ » فاعل به، لأن الخبر المفرد أصل، والجار من قبيل المفردات، أو أقرب إليها.
قوله :﴿ وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ ﴾.
اللفظ لفظ الأمر، والمراد به الخبر، يعني : إن أخفيتم كلامكم في أمر محمدٍ ﷺ أو جهرتم به، فإن اللَّه عليم بذات الصُّدور، يعني بما في القلوب من الخير والشر.
قال ابن عباس : نزلت في المشركين كانوا ينالون من النبيّّّّّ ﷺ فيخبره جبريل فقال بعضهم لبعض : أسِرُّوا قولكم كي لا يسمع ربُّ محمدٍ، فنزلت :﴿ وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ ﴾ يعني وأسروا قولكم في أمر محمد.
وقيل : إنه خطاب عام لجميع الخلق في جميع الأعمال، والمراد أن قولكم وعملكم على أي سبيل وجد، فالحال واحدة في علمه تعالى بها، فاحذروا من المعاصي سرًّا كما تحترزون عنها جَهْراً، فإن ذلك لا يتفاوت بالنسبة إلى علم اللَّهِ تعالى :﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور ﴾. ما فيها كما يسمى ولد المرأة جنيناً في بطنها.
قوله :﴿ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ﴾. في « مَنْ خَلَقَ » وجهان :
أحدهما : أنه فاعل « يَعْلَمُ » والمفعول محذوف، تقديره : ألا يعلم الخالق خلقه، وهذا هو الذي عليه جمهور الناسِ، وبه بدأ الزمخشريُّ.
والثاني : أن الفاعل مضمر يعود على الباري تعالى، و « مَنْ » مفعول به، أي : لا يعلم الله من خلقه.
قال أبو حيَّان : والظَّاهر أن « مَنْ » مفعول، والمعنى أينتفي علمه بمن خلقه، وهو الذي لطف علمه ودقّ، ثم قال : وأجاز بعض النحويين أن يكون « مَنْ » فاعلاً والمفعول محذوف، كأنه قال : ألا يعلم الخالق سرَّكُم، وجهركُم، وهو استفهام معناه الإنكار.
قال شهاب الدينِ :« وهَذَا الوجهُ الذي جعله هو الظاهر يعزيه الناس لأهل الزَّيْغ والبدع الدافعين لعموم الخلق لله تعالى، وقد أطنب مكي في ذلك، وأنكر على القائل به، ونسبه إلى ما ذكرت، فقال : وقد قال بعض أهل الزيغِ : إن » مَنْ « في موضع نصب اسم للمسرين والمجاهرين ليخرج الكلام عن عمومه، ويدفع عموم الخلق عن الله تعالى، ولو كان كما زعم لقال : ألا يعلم ما خلق؛ لأنه إنما يقدم ذكر ما تكن الصدور فهو في موضع ما، ولو أتت » مَا « في موضع » مَنْ « لكان فيه أيضاً بيان العموم أن اللَّه خالق كل شيء من أقوال الخلق وأفعالهم أسروها، أو أظهروها خيراً كانت، أو شراً، ويقوي ذلك ﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور ﴾ ولم يقل : عليم بالمسرين والجاهرين، ويكون » مَا « في موضع نصبٍ، وإنما تخرج الآية من هذا العموم إذا جعلت » ما « في موضع نصب اسماً للأناسِ المخاطبين قبل هذه الآيةِ، وقوله :﴿ بِذَاتِ الصدور ﴾ يمنع من ذلك » انتهى.


الصفحة التالية
Icon