فإن قيل : إنَّ نوحاً - ﷺ - أمر الكفار أولاً بالعبادة، والطَّاعة، فأيُّ فائدةٍ في أن أمرهم بعد ذلك بالاستغفار.
فالجوابُ : لمَّا أمرهم بالعبادة قالوا له : إن كان الدين الذي كُنَّا عليه حقاً، فلم تأمرنا بتركه، وإن كان باطلاً، فكيف يقبلنا بعد أن عصيناه، فقال نوح - ﷺ - : إنكم وإن كنتم قد عصيتموه ولكن استغفروا من تلك الذنوب فإنَّه سبحانه كان غفاراً.
فإن قيل : فلم قيل : إنه كان غفاراً، ولم يقل : إنَّه غفار؟.
فالجوابُ : كأنه يقول : لا تظنوا أن غفرانه إنما حدث الآن بل هو أبداً هكذا عادته أنه غفارٌ في حق من استغفر.
قوله :﴿ مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ﴾.
قيل : الرجاء هنا بمعنى الخوف، أي : ما لكم لا تخافون لله عظمة، وقدرة على أحدكم بالعقوبة، أي : أيُّ عذر لكم في ترك الخوف من الله؛ قال الهذليُّ :[ الطويل ]

٤٨٧٩ - إذَا لَسَعتْهُ النَّخْلُ لمْ يَرْجُ لَسْعهَا ..........................
وقال سعيد بن جبيرٍ وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح : ما لكم لا ترجون لله ثواباً، ولا تخافون له عقاباً.
وقال سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبَّاسٍ :﴿ مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ ﴾، لا تخشون لله عقاباً وترجون منه ثواباً.
وقال الوالبي و العوفي عنه : ما لكم لا تعلمون لله عظمة.
وقيل : ما لكم لا تعتقدون لله عظمة.
وقال ابن عباس ومجاهد : ما لكم لا ترون لله عظمة.
قال قطرب : هذه لغةٌ حجازيةٌ، وهذيل وخزاعةُ ومضر يقولون : لم أرج، أي : لم أبال.
قوله :« وقَاراً »، يجوز أن يكون مفعولاً به على معان، منها : ما لكم لا تأملون له توقيراً، أي : تعظيماً.
قال الزمخشريُّ : والمعنى ما لكم لا تكونون على حالٍ، تأملون فيها تعظيم الله إيَّاكم في دار الثواب « ولله » بيانٌ للموقر، ولو تأخر لكان صلته. انتهى.
أي : لو تأخر « للَّهِ » عن « وقَاراً » لكان متعلقاً به، فيكون التوقير منهم لله تعالى وهو عكس المعنى الذي قصده، ومنها : لا تخافون لله حلماً وترك معاجلة بالعقاب فتؤمنوا.
ومنها : لا تخافون لله عظمة، وعلى الأول يكون الرجاء على بابه، وقد تقدم أن استعماله بمعنى الخوف مجاز ومشترك.
وأن يكون حالاً من فاعل « تَرجُونَ »، أي : موقرين الله تعالى، أي : تعظمونه ف « لِلَّهِ » على هذا متعلق بمحذوف على أنه حالٌ من « وقَاراً » أو تكون اللام زائدة في المفعول به، وحسنه هنا أمران : كون العامل فرعاً، وكون المعمول مقدماً، و « لا تَرْجُونَ » حال.
وقد تقدم نظيره في المائدة.
والوقارُ : العظمة، والتوقيرُ التعظيم، ومنه قوله تعالى :﴿ وَتُوَقِّرُوهُ ﴾ [ الفتح : ٩ ].
وقال قتادةُ : ما لكم لا ترجون لله عاقبة كأن المعنى : ما لكم لا ترجون لله عاقبة الإيمان.


الصفحة التالية
Icon