قال القرطبيُّ : وفي هذا الحديث دليلٌ على أنه ﷺ لم يرَ الجنَّ ولكن حضروه وسمعوا قرآنه.
فإن قيل : الذين رموا بالشُّهب هم الشياطينُ والذين سمعوا القرآن هم الجنُّ، فما وجه الجمع؟ فالجواب من وجهين :
الأول : أنَّ الجن كانوا مع الشياطين، فلما رمي الشياطين أخذوا الجنَّ الذين كانوا منهم في تجسس الخبرِ.
الثاني : أن الذين رموا بالشهبِ كانوا من الجن، إلا أنهم قيل لهم : شياطين كما قيل : شياطين الإنس والجنِّ، فإنَّ الشيطان كل متمرد، وبعيد من طاعة الله تعالى.
قال ابن الخطيب رحمه الله : واختلف في أولئك الجنِّ الذين سمعوا القرآن من هم؟.
فروى عاصم عن ذر قال : قدم رهطُ زوبعة وأصحابه على النبي ﷺ ثم انصرفوا، فذلك قوله تعالى :﴿ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن ﴾.
وقيل : كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عدداً وعامة جنود إبليس منهم.
وقيل : كانوا سبعة، ثلاثة من أرض « حرَّان » وأربعة من أرض « نَصِيبينَ »، : قريِةٌ من قرى اليمن غير التي بالعراق رواه أيضاً عنهم عاصم عن ذر.
وقيل : إنَّ الجنَّ الذين أتوه بمكةَ جنُّ نصيبين، والذين أتوه بنخلة جنُّ نينَوى.
وقال عكرمةُ : كانوا اثني عشر ألفاً من جزيرة الموصل.
ومذهب ابن مسعود أنَّ النبي ﷺ أمر بالمسير إليهم ليقرأ القرآن عليهم ويدعوهم إلى الإسلام، روى ابن مسعود أن النبي ﷺ قال :« أمِرْتُ أن أتْلُوَ القُرآنَ على الجِنِّ فمَنْ يَذْهَبُ مَعِي؟ فَسَكَتُوا، ثُمَّ قَالَ النَّبيُّ ﷺ الثانية : ثُمَّ قال النبي ﷺ الثالثة، فقلتُ : أنَا أذْهَبُ مَعَكَ يا رسُولَ اللَّهِ، فانطلقَ، حتى أتى الحَجُونَ عند شعب ابن أبي دب خط عليَّ خطّاً فقال : لا تجاوزه، ثُمَّ مضَى إلى الحَجُونِ فاتَّخَذُوا عليه أمْثَالَ الحجل كأنَّهُم رِجالُ الزُّطِّ، قال ابنُ الأثير في » النهاية « :» الزّطّ : قومٌ من السودان والهنود « يقرعون في دُفُوفهِمْ، كما تَقرَعُ النِّسوةُ في دُفُوفِها، حتَّى غشاهُ، فغَابَ عنْ بَصرِي، فقُمْتُ، فأوْمَأ بيدِه إليَّ أن اجْلِسْ ثُمَّ تلا القرآن ﷺ فلم يزلْ صوتهُ يَرتفِعُ، ولصقوا في الأرضِ، حتَّى صِرْتُ لا أرَاهُمْ ».
وفي رواية أخرى، « قالوا لرسول الله ﷺ : مَنْ أنْتَ؟.
قال ﷺ : أنَا نَبِيٌّ، قالوا : فَمنْ يَشهَدُ لَكَ على ذَلِكَ؟.
فقال الحبيب المجتبى ﷺ : هذه الشَّجرةُ، تعالي يا شجرةُ فجَاءتْ تجرُّ عُروقهَا لها قعاقعُ، حتى انتصبتْ بين يديه ﷺ فقال لها ﷺ : على ماذا تشهدين فيَّ؟.
فقالت أشْهَدُ أنَّك رسُولُ الله قال ﷺ لها : اذْهَبِي، فَرجعَتْ فذهبت مكانها كَمَا جاءتْ، حتى صارتْ كما كانتْ.
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - : فلمَّا عاد إليَّ قال : أردت أن تأتيني، قلت : نعم يا رسول الله قال : مَا كَانَ ذلكَ لَكَ، قال : هؤلاءِ الجِنُّ أتَوا يَسْتمعُونَ القُرآنَ ثُمَّ ولَّوا إلى قَومِهِم مُنْذرينَ، فَسألُونِي الزَّادَ، فزوَّدتهُم العَظْمَ والبَعْرَ، فلا يَسْتطِيبنَّ أحدكُمْ بعَظْمٍ، ولا بَعْر ».