وعلى هذا فلأيّ شيء أنَّث الخبر.
وقد اختلف النحويون في ذلك، فقال بعضهم : الهاء فيه للمبالغة.
وقال الأخفش : هو كقولك :« فلان عِبْرة وحُجَّة ».
وقيل : المراد بالإنسان الجوارح، فكأنه قال : بل جوارحه بصيرة، أي شاهدة.
والثاني : أنَّها مبتدأ، و « على نفسه » خبرها، والجملة خبر عن الإنسان.
وعلى هذا ففيها تأويلان :
أحدهما : أن تكون « بصيرة » صفة لمحذوف، أي عين بصيرة. قاله الفراء؛ وأنشد :[ الطويل ]
٤٩٩٢ - كَأنَّ عَلَى ذِي العَقْلِ عَيْناً بَصِيرَةً | بِمقْعدِهِ أو مَنْظَرٍ هُو نَاظِرُهْ |
يُحَاذِرُ حتَّى يَحْسبَ النَّاسُ كُلُّهُم | مِنَ الخَوْفِ لا تَخْفَى عليْهِمْ سَرائِرُهْ |
الثالث : أنَّ المعنى ملائكة بصيرة، وهم الكاتبون، والتاء على هذا للتَّأنيث.
وقال الزمخشري :« بصيرة » : حُجَّة « بينة وصفت بالبصارة على المجاز كما وصفت الآيات بالإبصار في قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً ﴾ [ النمل : ١٣ ].
قال شهاب الدين :» هذا إذا لم تجعل الحُجَّة عبارة عن الإنسان، أو تجعل دخول التاء للمبالغة أمَّا إذا كانت للمبالغة فنسبة الإبصار إليها حقيقة «.
الوجه الثالث : يكون الخبر الجار والمجرور و » بصيرة « فاعل به، وهو أرجح مما قبله؛ لأن الأصل في الأخبار الإفراد.
فصل في تفسير الآية
قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما :» بصيرة « : أي : شاهد، وهو شهود جوارحه عليه : يداه بما يبطش بهما، ورجلاه بما يمشي عليهما، وعيناه بما أبصر بهما والبصيرة : الشاهد، كما أنشد الفراء، ويدل عليه قوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ النور : ٢٤ ].
قال الواحدي : هذا يكون من صفات الكفار، فإنهم ينكرون ما عملوا، فيُختم على أفواههم، وتنطق جوارحهم.
قوله :﴿ وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَه ﴾. هذه الجملة حالية، وقد تقدم نظيرها مراراً.
والمعاذير : جمع معذرة على غير قياس ك » ملاقيح ومذاكير « جمع لقحة وذكر.
وللنحويين في مثل هذا قولان :
أحدهما : أنه جمع لملفوظ به وهو لقحة وذكر.
والثاني : أنه جمع لغير ملفوظ به بل لمقدَّر، أي ملقحة ومذكار.
وقال الزمخشري :» فإن قلت : أليس قياس « المَعْذِرة » أن تجمع على معاذر لا معاذير؟.
قلت :« المعاذير » ليست جمع « معذرة » بل اسم جمع لها، ونحوه :« المناكير » في المُنْكَر «.
قال أبو حيان :» وليس هذا البناء من أبنية أسماء الجموع، وإنما هو من أبنية جموع التكسير « انتهى.
وقيل :» مَعاذِير « جمع مِعْذار، وهو السِّتر، والمعنى : ولو أرخى ستوره، والمعاذير : الستور بلغة » اليمن «، قاله الضحاك والسديُّ، وأنشد :[ الطويل ]
٤٩٩٣ - ولكِنَّهَا ضَنَّتْ بمَنْزلِ سَاعةٍ | عَليْنَا وأطَّتْ فوْقهَا بالمعَاذِرِ |