قوله :﴿ مَن رَاقٍ ﴾ مبتدأ وخبر، وهذه الجملة هي القائمة مقام الفاعل، وأصول البصريين تقتضي ألا يكون؛ لأن الفاعل عندهم لا يكون جملة، بل القائم مقامه ضمير المصدر وقد تقدم تحقيق هذا في البقرة.
وهذا الاستفهام يجوز أن يكون على بابه، وأن يكون استبعاداً وإنكاراً.
فالأولى مروي عن ابن عباس وعكرمة وغيرهما، قالوا : هو من الرقية.
وروى سماك عن عكرمة قال :« من راق » يرقي ويشفي.
والثاني رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس أيضاً : هل من طبيب يشفيه، وهو قول أبي قلابة وقتادة. وقال الشاعر :[ البسيط ]
٥٠٠٦ - هَلْ لِلفَتَى مِنْ بنَاتِ الدَّهْرِ من وَاقِ؟ | أمْ هَلْ لَهُ مِن حَمامِ المَوتِ مِنْ رَاقِ؟ |
وعن ابن عباس أيضاً وأبي الجوزاء : أنه من رقي يرقى : إذا صعد.
والمعنى : من يرقى بروحه إلى السماء؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟
وقيل : إن ملك الموت يقول :« مَن راقٍ » أي : من يرقى بهذه النفس.
قال شهاب الدين : و « راقٍ » اسم فاعل إما من « رقى يرقي » من الرقية، وهو كلام معد للاستشفاء يرقى به المريض ليشفى، قال رسول الله ﷺ :« ومَا أدْراكَ أنَّها رُقْيَة » يعني الفاتحة، وهو اسم من أسمائها، وإما من « رَقِيَ يرقَى » من الرَّقْي وهو الصعود أي أن الملائكة لكراهتها في روحه تقول : من يصعد بهذه الروح يقال :« رَقَى - بالفتح - من الرُّقية، وبالكسر من الرَّقْي »، ووقف حفص على نون « من » سكتة لطيفة، وقد تقدم تحقيق هذا في أول الكهف.
وذكر سيبويه أن النون تدغم في الراء وجوباً بغنة وبغيرها نحو « من راشد ».
قال الواحدي : إن إظهار النون عند حروف الفم لحن فلا يجوز إظهار نون « من » في قوله :« من راق ».
وروى حفص عن عاصم : إظهار النون واللام في قوله :« من راق » و « بل ران ». قال أبو علي الفارسي :« ولا أعرف وجه ذلك ».
قال الواحدي : والوجه أن يقال : قصدوا الوقف على « من » و « بل »، فأظهروهما ثم ابتدأوا بما بعدهما، وهذا غير مرضي من القراءة.
قوله :﴿ وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق ﴾، أي : أيقن الإنسان أنه الفراق، أي : فراق الدنيا، والأهل والمال والولد، وذلك حين يعاين الملائكة، وسمي اليقين هنا بالظن؛ لأن الإنسان ما دامت روحه متعلقة ببدنه فإنه يطمع في الحياة لشدة حبه لهذه الحياة العاجلة، ولا ينقطع رجاؤه عنها، فلا يحصل له يقين الموت، بل الظن الغالب مع رجاء الحياة، أو لعله سماه بالظن الغالب تهكماً.