[ المدثر : ٦ ] أي : لتستكثر.
ومعنى :« نبتليه » نختبره، وقيل : نقدر فيه الابتلاء وهو الاختبار، وفيما يختبر به وجهان :
أحدهما : قال الكلبي : نختبره بالخير والشر.
والثاني : قال الحسن : نختبر شكره في السراء وصبره في الضراء.
وقيل :« نَبْتَلِيه » نكلّفه بالعمل بعد الخلق. قاله مقاتل رحمه الله. وقيل : نكلفه؛ ليكون مأموراً بالطاعة، ومنهياً عن المعاصي.
وقوله :﴿ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾.
والمعنى : إنا خلقناه في هذه الأمشاج لا للعبث بل للابتلاء والامتحان، ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر، وهما كنايتان عن الفهم والتمييز، لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة، والمعنى : جعلنا له سمعاً يسمع به الهدى وبصراً يبصر به الهدى كما قال تعالى حاكياً عن إبراهيم ﷺ :﴿ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ ﴾ [ مريم : ٤٢ ] وقد يراد بالسميع المطيع، كقوله :« سَمْعاً وطَاعَة »، وبالبصير : العالم، يقال : لفلان بصر في هذا الأمر.
وقيل : المراد بالسمع والبصر : الحاسَّتان المعروفتان، والله - تعالى - خصهما بالذكر؛ لأنهما أعظم الحواس وأشرفهما.
قوله :﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل ﴾ أي : بيَّنا له وعرفناه بطريق الهدى والضلال والخير والشر ببعث الرسل فآمن أو كفر.
وقال مجاهد : السبيل هنا خروجه من الرحم.
وقيل : منافعه ومضاره التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله.

فصل في ان العقل متأخر عن الحواس


قال ابن الخطيب : أخبر الله - تعالى - أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة بين له سبيل الهدى والضلال، قال : والآية تدل على أن العقل متأخر عن الحواس، وهو كذلك ثم ينشأ عنها عقائد صادقة أولية كعلمنا بان النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان، وأن الكل أعظم من الجزء وهذه العلوم الأولية هي العقل.
قال الفراء : هذا يتعدى بنفسه وباللام.
قوله :﴿ إِمَّا شَاكِراً ﴾. نصب على الحال، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه حال من مفعول « هَدَيْنَاهُ » أي : هديناه مبيناً له كلتا حالتيه.
قال أبو البقاء : وقيل : وهي حال مقدرة.
قال شهاب الدين : لأنه حمل الهداية على أول البيان له وفي ذلك الوقت غير متصف بإحدى الصفتين.
والثاني : أنه حال من « السبيل » على المجاز.
قال الزمخشري :« ويجوز أن يكونا حالين من السبيل أي عرفناه السبيل، إما سبيلاً شاكراً، وإما سبيلاً كفوراً، كقوله تعالى :﴿ وَهَدَيْنَاهُ النجدين ﴾ [ البلد : ١٠ ]، فوصف السبيل بالشكر والكفر مجازاً ».
والعامة على كسر همزة « إما » وهي المرادفة ل « أو » وقد تقدم خلاف النحويين فيها.
ونقل مكي عن الكوفيين أن هاهنا :« إن » الشرطية زيدت بعدها « ما » ثم قال :« وهذا لا يجيزه البصريون؛ لأن » إن « الشرطية لا تدخل على الأسماء إلاَّ أن يضمر فعل نحو :﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين ﴾ [ التوبة : ٦ ]، ولا يصح إضمار الفعل، ويمكن أن يضمر فعل ينصب » شاكر «، وأيضاً لا دليل على الفعل » انتهى.


الصفحة التالية
Icon