قوله :﴿ أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ ﴾. أي : ضعيف حقير وهو النُّطفة، وهذا نوع آخر من تخويف الكفار، وهو من وجهين :
الأول : أنه - تعالى - ذكرهم عظيم إنعامه عليهم، وكلما كانت نعمه عليهم أكثر كانت جنايتهم في حقه أقبح وأفحش، فيكون العقاب أعظم، فلهذا قال جل ذكره عقيب هذه الأنعام :﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾.
والثاني : أنه تعالى ذكرهم كونه تعالى قادراً على الابتداء، والظاهر في العقل أن القادر على الابتداء قادر على الإعادة، فلما أنكروا هذه الدلالة الظاهرة، لا جرم قال في حقهم :﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾، وهذه الآية نظير قوله تعالى :﴿ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ ﴾ [ السجدة : ٨ ].
﴿ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ﴾، أي : مكان حريز وهو الرَّحم.
﴿ إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ ﴾، قال مجاهد : إلى أن نصوره، وقيل : إلى وقت الولادة، كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة ﴾ [ لقمان : ٣٤ ] إلى قوله :﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام ﴾ [ لقمان : ٣٤ ].
قوله تعالى :﴿ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون ﴾، قرأ نافع والكسائي : بالتشديد من التقدير، وهو موافق لقوله تعالى :﴿ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ﴾ [ عبس : ١٩ ].
والباقون : بالتخفيف، من القدرة، ويدل عليه ﴿ فَنِعْمَ القادرون ﴾.
ويجوزُ أن يكون المعنى على القراءة الأولى : فنعم القادرون على تقديره : وإن جعلت « القادرون » بمعنى « المقدرون » كان جمعاً بين اللَّفظين، ومعناهما واحد، ومنه قوله تعالى :﴿ فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ﴾ [ الطارق : ١٧ ] ؛ وقول الأعشى :[ البسيط ]
٥٠٥٧- وأنْكرَتْنِي وقَدْ كَانَ الَّذِي نَكرَتْ | مِنَ الحَوادثِ إلاَّ الشَّيْبَ والصَّلْعَا |
قال القتيبي :« قَدَرْنَا » بمعنى « قَدَّرْنَا » مشددة، كما تقول : قدرت كذا وقدرته ومنه قوله ﷺ في الهلال :« إذَا غُمَّ عَليْكُمْ فاقْدُرُوا لَهُ » أي : قدروا له المسير والمنازل.
وقال محمد بن الجهم عن الفرَّاء : أنه ذكر تشديدها عن علي - رضي الله عنه - وتخفيفها.
قال : ولا يبعُد أن يكون المعنى في التشديد والتخفيف واحداً، لأن العرب تقول : قدر عليه الموت وقدر، قال تعالى :﴿ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت ﴾ [ الواقعة : ٦٠ ] قرئ بالتخفيف والتشديد، وقدر عليه رزقه وقدر، واحتج الذين خففوا فقالوا : لو كانت كذلك لكانت « فنِعْمَ المُقدِّرُونَ ».
قال الفراء : والعرب تجمع بين اللُّغتين، واستدل بقوله :﴿ فَمَهِّلِ الكافرين ﴾ الآية، [ الطارق : ١٧ ] وذكر بيت الأعشى المتقدم.
وقيل : المعنى قدَّرنا قصيراً وطويلاً، ونحوه عن ابن عبَّاس : قدرنا ملكنا.
قال المهدوي : وهذا التفسير أشبه بقراءة التخفيف.