قوله تعالى :﴿ عَبَسَ وتولى ﴾ أي : كَلحَ بوجههِ، يقال : عبَسَ وبَسَر وتولى، أي : أعرضَ بوجهه.
قوله :﴿ أَن جَآءَهُ ﴾. فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه مفعولٌ من أجله، وناصبه : إمَّا « تولَّى » وهو قول البصريين، وإمَّا « عَبَسَ » وهو قول الكوفيين، والمختار مذهب البصريين لعدم الإضمار في الثاني، وتقدم تحقيق هذا في مسائل النزاع والتقدير : لأن جَاءهُ الأعْمَى فعل ذلكَ.
قال القرطبيُّ : إن من قرأ بالمدِّ على الاستفهام، ف « أنْ » متعلقة بمحذوف دلَّ عليه ﴿ عَبَسَ وتولى ﴾ والتقدير : أأن جاءهُ اعرض عنهُ وتولى؟ فيوقف على هذه القراءة على « تولَّى »، ولا يوقف عليه على قراءة العامة.
فصل في سبب نزول الآية
قال المفسرون : أتى رسول الله ﷺ ابن أم مكتومٍ، واسمُ مكتُومٍ عاتكةُ بنتُ عامرٍ بن مخزومٍ، وكان عند النبي ﷺ صناديدُ قريش : عُتْبَةُ وشيبةُ ابنا رَبِيعةَ، وأبُو جَهْلٍ بْنُ هشام، والعبَّاسُ بنُ عبدِ المُطلبِ، وأميَّةُ بن خلفٍ، والوليدُ بنُ المُغيرةِ، يدعوهم إلى الإسلام رجاءَ أن يسلم بإسلامهم غيرُهم، فقال للنبي ﷺ : عَلِّمني مما علمك الله، وكرَّر ذلك عليه، فكره قطعه لكلامه، وعبس وأعرض عنه، فنزلت هذه الآية.
قال ابن العربي : أمَّا قول المفسرين : إنه الوليد بن المغيرة، أو أمية بن خلف والعباس، فهذا كله باطلٌ وجهلٌ؛ لأن أمية والوليد كانا ب « مكة » وابن أم مكتوم كان ب « المدينة » ما حضر معهما، ولا حضرا معه، وماتا كافرين، أحدهما : قبل الهجرة، والآخر في « بدر »، ولم يقصد أمية « المدينة » قط، ولا حضر معه مفرداً، ولا مع أحدٍ، وإنَّما أقبل ابن أم مكتوم والنبي ﷺ مشتغل بمن حضره من وجوه قريش يدعوهم إلى الإسلام، وقد طمع في إِسلامهم، وكان في إسلامهم إسلام من وراءهم من قومهم فجاء ابن أم مكتوم وهو أعمى، فقال : يا رسول الله علمني مما علمك الله وجعل يناديه ويكثر النداء، ولا يدري أنه مشتغل بغيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله ﷺ لقطعه كلامه، وقال في نفسه : يقول هؤلاء إنَّما اتْباعُه العُمْيَان والسَّفلة والعبيد، فعبس وأعرضَ عنه، فنزلت الآية.
قال الثوري :« فكان النبيُّ ﷺ بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم بسط له رداءهُ، ويقول :» مَرْحَباً بمَنْ عَاتَبنِي فِيهِ ربِّي «، ويقول :» هَلْ مِنْ حَاجَةٍ «؟ واستخلفهُ على » المدينة « مرتين في غزوتين غزاهما ».
قال أنسٌ رضي الله عنه : فرأيته يوم « القادسيَّة » راكباً وعليه دِرْع، ومعه رايةٌ سوداءُ.