وقيل : لعلمه أنهم لا ينفعونه، ولا يغنون عنه شيئاً، لقوله تعالى :﴿ يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً ﴾ [ الدخان : ٤١ ].
وقال عبد الله بن طاهر : يفرُّ منهم لمَّا تبين له عجزهم، وقلّة حيلتهم.
وذكر الضحاك عن ابن عباس، قال : يفر قابيلُ من أخيه هابيل، ويفرُّ النبي من أمِّه، ويفرُّ إبراهيمُ من أبيه، ونوحٌ من ابنه، ولوطٌ من امرأتهِ، وآدمُ من سوءةِ بنيهِ.
قال ابنُ الخطيب : المراد : أن الذين كان المرء يفرُّ إليهم في دار الدنيا، ويستجيرُ بهم، فإنه يفرُّ منهم في دار الآخرة، وذكروا في فائدة الترتيب كأنَّه قيل :﴿ يَوْمَ يفرُّ المَرْءُ من أخِيهِ ﴾، بل من أبويه، فإنهما أقرب من الأخوين، بل من الصَّاحبة والولد؛ لأنَّ تعلُّق القلب بهما أشد من تعلُّقه بالأبوين. ثم لمَّا ذكر الفِرارَ أتبعه بذكر سببه فقال تعالى :﴿ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾.
قال ابن قتيبة :« يغنيه » أي : يصرفه عن قرابته، ومنه يقال : أغْنِ عنِّي وَجْهَكَ، أي : اصرفه.
وقال أهل المعاني : إنَّ ذلك الهم الذي حصل له قد ملأ صدره، فلم يبق فيه متسع لهمّ آخر، فصار شبيهاً بالغني في أنه ملك شيئاً كثيراً.
قوله تعالى :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ﴾. لما ذكر تعالى حال يوم القيامة في الهول بيَّن أن المكلفين فيه على قسمين : سعداء، وأشقياء، فوصف سبحانه السعيد بقوله تعالى :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ﴾ أي : مضيئة مشرقة، وقد علمت ما لها من الفوز، والنعيم، من أسفر الصبح : إذا أضاء، وهي وجوه المؤمنين « ضاحكةٌ » أي : مسرورة فرحة.
قال الكلبي : يعني بالفراغ من الحساب ﴿ مُّسْتَبْشِرَةٌ ﴾ أي : بما آتاها الله تعالى من الكرامة.
وقال عطاءُ الخراسانيُّ :« مسْفِرةٌ » من طول ما اغبرت في سبيل الله.
وقال الضحاكُ : من آثار الوضوء.
وقال ابن عباس - رضي الله عنه - : من قيامِ اللَّيل، لقوله ﷺ :« مَنْ كَثُرتْ صلاتُه باللَّيلِ حسُنَ وجههُ بالنَّهارِ ».
قوله تعالى :﴿ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ﴾.
قال المبرد :« الغَبَرةُ » الغبارُ، والقترةُ : سوادٌ كالدُّخان.
وقال أبو عبيدة : القترُ في كلام العرب : الغبارُ، جمع القترة؛ قال الفرزدقُ :[ البسيط ]
٥١١٦- مُتَوجٌ بِرداءِ المُلكِ يَتْبعهُ | مَوْجٌ تَرى فَوقَهُ الرَّاياتِ والقَتَرَا |
٥١١٧-............................ | ........ كَذِبًا ومَيْنَا |
٥١١٨-............................ | ....... النَّأيُ والبُعْدُ |
وقال زيدُ بن أسلمَ : القترةُ : ما ارتفعت إلى السماء، والغبرةُ : ما انحطت إلى الأرض، والغُبَار والعبرةُ واحدٌ.
قال ابن عباس :« تَرْهَقُهَا » أي : تغشاها، « قَتَرةٌ » أي : كسوفٌ وسواد.
وعنه - أيضاً - : ذلَّةٌ وشدَّةٌ.
وقيل : تَرهقُهَا، أي : تدركها عن قُرب، كقولك : رَهقَتْهُ الخيل إذا أدركته مسرعة، والرَّهْقُ : عجلة الهلاك، القترةُ : سواد كالدُّخان، ولا يرى أوحشُ من اجتماع الغبار والسواد في الوجه، كما ترى وجوه الزنوج إذا غبرت، فجمع الله - تعالى - في وجوههم بين السواد، والغبرة، كما جمعوا بين الكفر، والفجور، والله أعلم.