فالجواب من وجوه :
الأول : أن المعنى لما كنت ترى حلم الله - تعالى - عن خلقه ظننت أن ذلك لا حساب، ولا دار إلا هذه الدار، فما الذي دعاك إلى الاغترار وجرَّأك على إنكار الحشر، والنشر، فإنَّ ربك كريم، فهو من كرمه - تعالى - لا يعاجل بالعقوبة بسطاً في مدة التوبة، وتأخيراً للجزاء، وذلك لا يقتضي الاغترار.
الثاني : أنَّ كرمه تعالى لمَّا بلغ إلى حيث لا يمنع العاصي من أن يطيعه، فبأن ينتقم للمظلوم من الظالم كان أولى، فإذاً كان كونه كريماً يقتضي الخوف الشديد من هذا الاعتبار، وترك الجزاء والاغترار.
الثالث : أنَّ كثرة الكرم توجب الجد والاجتهاد في الخدمة، والاستحياء من الاغترار.
الرابع : قال بعضهم : إنما قال :« بربِّكَ الكَريمِ » ليكون ذلك جواباً عن ذلك السؤال حتى يقول : غوني كرمُك، فلولا كرمك لما فعلت؛ لأنك لو رأيت فسترت، وقدرت فأمهلت.
وهذا الجواب إنما يصح إذا كان المراد بقوله تعالى :﴿ ياأيها الإنسان ﴾ ليس هو « الكافر ».
فصل في غرور ابن آدم
قال قتادةُ - رضي الله عنه - : سبب غرور ابن آدم تسويل الشيطان وقال مقاتل : غرَّه عفو الله حين لم يعاقبه أوَّل مرة.
وقال السديُّ : غرَّه عفو الله.
وقال ابن مسعودٍ : ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة، فيقول تعالى : ما غرَّك يا ابن آدم، ماذا غرَّك يا ابن آدم، ماذا عملت فيما علمت؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟.
قوله :﴿ الذي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ ﴾، يحتمل الإتباع على البدل والبيان، والنعت، والقطع إلى الرفع والنصب.
واعلم أنه - تعالى - لما وصف نفسه بالكرم، ذكر هذه الأمور الثلاثة، كالدلالة على تحقق ذلك الكرم، فقوله تعالى :﴿ الذي خَلَقَكَ ﴾ لا شكَّ أنَّه كرمٌ؛ لأنه وجود، والوجود، خير من العدم، والحياة خير من الموت، كما قال تعالى :﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٨ ]، وقوله تعالى :« فسوّاك » أي : جعلك سوياً سالم الأعضاءِ، ونظيره قوله تعالى :﴿ أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ﴾ [ الكهف : ٣٧ ]، أي : معتدل الخلق والأعضاء.
قال ذو النون : أي : سخَّر لك المكونات أجمع، وما جعلك مسخَّراً لشيء منها، ثم أنطق لسانك بالذكر، وقلبك بالعقل، وروحك بالمعرفة، ومدك بالإيمان وشرفك بالأمر والنهي، وفضلك على كثير ممن خلق تفضيلاً.
قوله :« فعدَلَكَ ». قرأ الكوفيون :« عَدلَكَ » مخففاً، والباقون : مثقَّلاً.
فالتثقيل بمعنى : جعلك مناسب الأطراف، فلم يجعل إحدى يديك ورجليك أطول، ولا إحدى عينيك أوسع، فهو من التعديل، وهو كقوله تعالى :﴿ بلى قَادِرِينَ على أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾ [ القيامة : ٤ ].
قال علماء التشريح : إنَّه - تعالى - ركَّب جانبي الجثة على التساوي حتى أنه لا تفاوت بين نصفيه، لا في العظام، ولا في أشكالها، ولا في الأوردة والشرايين، والأعصاب النافذة فيها والخارجة منها.