﴿ وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ﴾ [ الإسراء : ٨٦ ]، ثم إنا نقطع أنه تعالى ما شاء ذلك، ونظيره قوله تعالى :﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾ [ الزمر : ٦ ] مع أنه ﷺ ما أشرك ألبتَّة ففائدة هذا الاستثناء أن الله تعالى، بعرفه قدرته، حتى يعلم أنَّ عدم النِّسيان من فضل الله، وإحسانه، لا من قوته.
وثالثها : أن الله تعالى لما ذكر هذا الاستثناء جوَّز رسول الله ﷺ في كل ما ينزل عليه من الوحي، أن يكون ذلك هو المستثنى، فلا جرم كان يبالغ في التثبُّت، والتحفُّظ في جميع المواضع، وكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء بقاءه ﷺ عى التيقُّظ في جميع الأحوال.
قوله :﴿ إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى ﴾ الجَهْرُ : هو الإعلان من القول والعمل، « وَمَا يَخْفَى » من السرّ.
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ما في قلبك ونفسك.
وقال محمد بن حاتمٍ : يعلم إعلان الصدقة وإخفاءها.
وقيل : الجهر ما حفظته من القرآن في صدرك، « ومَا يَخْفَى » هو ما نسخ في صدرك.
فصل في الكلام على « ما »
« ما » اسمية، ولا يجوز أن تكون مصدرية، لئلا يلزم خلو الفعل من فاعل، ولولا ذلك لكان المصدرية أحسن ليعطف مصدر مؤول على مصدر صريح.
قوله :﴿ وَنُيَسِّرُكَ لليسرى ﴾ : عطف على « سنُقْرِئُكَ فلا تَنْسَى »، فهو داخل في حيز التنفيس، وما بينهما من الجملة اعتراض.
واليسرى : هي الطَّريقة اليسرى، وهي أعمال الخير، والتقدير : سنقرئك فلا تنسى، ونوفقك للطريقة التي هي أسهل وأيسر، يعني في حفظ القرآن.
[ قال ابن مسعود : اليسرى الجنة أي نيسرك للعمل المؤدي إلى الجنة وقيل نهوّن عليك الوحي حتى تحفظه وتعمل به وقيل نوفقك للشريعة لليسرى وهي الحنيفية السهلة السمحة، قال الضحاك :] فإن قيل : المعهود في الكلام أن يقال : يسر الأمر لفلان، ولا يقال : يسر فلان للأمر.
فالجواب أن هذه العبارة كأنها اختيار القرآن هنا وفي سورة « والليل »، فكذا هي اختيار الرسول ﷺ في قوله :« اعمَلُوا فكُلٌّ ميسَّرٌ لمَا خُلقَ لهُ »، وفيه لطيفة : وهي أن الفاعل لا يترجح عند الفعل عن الترك، ولا عكسه، وإلاَّ لمرجح، وعند ذلك المرجح يجب الفعل، فالفاعل إذن ميسر للفعل، إلاَّ أن الفعل ميسر للفاعل، فذلك الرجحان هو المسمى ب « التيسير ».