قوله تعالى :﴿ كَلاَّ ﴾ : ردعٌ للإنسان عن تلك المقالة.
قال ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما - المعنى : لم أبتله بالغنى، لكرامته عليّ، ولم أبتله بالفقرِ، لهوانه عليّ، بل ذلك لمحضِ القضاء والقدر، والمشيئة والحكم المنزه عن التعليل، وهذا مذهب أهل السنة، وأما على مذهب المعتزلة : فلمصالح خفيَّة، لا يطلع عليها إلا هو - سبحانه - فقد يوسع على الكافر لا لكرامته، ويقتر على المؤمن لا لهوانه.
قال الفراء في هذا الموضع : يعني : لم يكن للعبد أن يكون هكذا، ولكن يحمد الله - تعالى - على الغنى والفقر.
قوله :﴿ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم ﴾. قرأ أبو عمرو :« يكرمون »، وما بعده بياء الغيبة، حملاً على معنى الإنسان المتقدم، إذا المراد به الجنس، والجنس في معنى : الجمع.
والباقون : بالتاء في الجميع، خطاباً للإنسان المراد به الجنس، على طريقة الالتفات.

فصل فيمن نزلت فيه الآية


لما حكى قولهم، فكأنه قال : لهم فعل أشر من هذا القول، وهو أن الله - تعالى - يكرمهم بكثرة المال، فلا يؤدون ما يلزمهم من إكرام اليتيم، فقرعهم بذلك، ووبخهم. وترك إكرام اليتيم بدفعه عن حقه، وأكل ماله.
وقال مقاتلٌ : نزلت في قدامة بن مظعونٍ، وكان يتيماً في حجر أمية بن خلف، وكان يدفعه عن حقه.
قوله :﴿ وَلاَ تَحَاضُّونَ على طَعَامِ المسكين ﴾.
قرأ الكوفيون :« ولا تحاضون »، والأصل : تتحاضون، فحذف إحدى التاءين، أي : لا يحض بعضكم بعضاً.
وروي عن الكسائي :« تُحاضُّون » بضم التاء، وهي قراءة زيد بن علي وعلقمة، أي : تحاضون أنفسكم.
والباقون :« تَحُضُّون » من حضَّه على كذا، أي : أغراه به، ومفعوله محذوف، أي : لا تحضون أنفسكم ولا غيرها، ويجوز ألاَّ يقدر، أي : لا يوقعون الحضّ.
قوله :« عَلى طعامِ » : متعلق ب « تحضون »، و « طَعَام » : يجوز أن يكون على أصله من كونه اسماً للمطعوم، ويكون على حذف مضاف، أي : على بذل، أو إعطاء طعام، وأن يكون اسم مصدر بمعنى : الإطعام كالعطاء بمعنى الإعطاء، فلا حذف حينئذ.

فصل في ترك إكرام اليتيم


اعلم أن ترك إكرام اليتيم على وجوه :
أحدها : ترك بره وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَحَاضُّونَ على طَعَامِ المسكين ﴾.
والثاني : دفعه عن حقه، وأكل ماله، وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿ وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً ﴾.
قوله :﴿ وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً ﴾ التاء في « التُّراثَ » : بدل من الواو؛ لأنه من الوراثة ومثله : تولج، وتوراة، وتخمة وقد تقدم كما قالوا : تجاه، وتخمة، وتكأة، وتؤدة، ونحو ذلك.
والتراث : ميراث اليتامى، وقوله تعالى :﴿ أَكْلاً لَّمّاً ﴾، اللَّمم : الجمع الشديد، يقال : لممت الشيء لماً، أي : جمعته جمعاً.


الصفحة التالية
Icon