قوله :﴿ فَلاَ اقتحم العقبة ﴾.
قال الفراءُ والزجاجُ : ذكر « لا » مرة واحدة، والعرب لا تكاد تفرد :« لا » مع الفعل الماضي، حتى تعيد « لا »، كقوله تعالى :﴿ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى ﴾ [ القيامة : ٣١ ] وإنَّما أفردها لدلالة آخر الكلام على معناه، فيجوز أن يكون قوله تعالى :﴿ ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ ﴾ قائماً مقام التكرير، فكأنه قال : فلا اقتحم العقبة ولا آمن.
وقال الزمخشريُّ : هي متكررة في المعنى؛ لأن معنى :« فلا اقتحم العقبة : فلا فكَّ رقبة، ولا أطعم مسكيناً ». ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك؟.
قال أبو حيَّان : ولا يتم له هذا إلا على قراءة :« فكّ » فعلاً ماضياً.
وقال الزجاج والمبردُ وأبو عليٍّ، وذكره البخاري عن مجاهد : أن قوله تعالى :﴿ ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ ﴾ يدل على أن « لا » بمعنى :« لم »، ولا يلزم التكرير مع « لم »، فإن كررت « لا » كقوله :﴿ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى ﴾ [ القيامة : ٣١ ]، فهو كقوله تعالى :﴿ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ ﴾ [ الفرقان : ٦٧ ].
فصل في معنى الآية
المعنى : فهلاَّ أنفق ماله في اقتحام العقبة، الذي يزعم أنه أنفقه في عداوة محمد ﷺ هلا أنفقه في اقتحام العقبة، فيأمن، والاقتحامُ : الرمي بالنفس في شيء من غير روية، يقال منه : قحم في الأمر قُحُوماً، أي : رمى بنفسه فيه من غير روية، وقَحَّم الفرس فارسه تقحيماً على وجهه : إذا رماه وتقحيم النفس في الشيء : إدخالها فيه من غير روية، والقُحْمَةُ - بالضم - المهلكة والسَّنة الشديدة، يقال : أصاب العرب القُحْمَةُ : إذا أصابهم قحط [ فدخلوا الريف ] والقُحَمُ : صعاب الطريق.
وقال عطاء : يريد عقبة جهنم.
وقال مجاهدٌ والضحاك : هي الصراطُ.
قال الواحدي : وهذا فيه نظر؛ لأن من المعلوم أن هذا الإنسان وغيره، لم يقتحموا عقبة جهنم ولا جاوزوها.
وقال ابن العربي : قال مجاهد : اقتحام العقبة في الدنيا؛ لأنه فسره بعد ذلك، بقوله :« فكُّ رقَبةٍ » أو أطعم في يومٍ يتيماً، أو مسكيناً، وهذه الأعمال إنما تكون في الدنيا.
وقال الحسنُ ومقاتلٌ : هذا مثلٌ ضربه الله تعالى، لمجاهدة النفس، والشيطان في أعمال البر.
قال القفال : قوله تعالى :﴿ فَلاَ اقتحم العقبة ﴾، معناه : فلا أنفق ماله فيما فيه اقتحام العقبة.
وقيل : معنى قوله تعالى :﴿ فَلاَ اقتحم ﴾ دعاء، أي : فلا نجا ولا سلم، من لم ينفق ماله في كذا وكذا.
وقيل : شبه عظيم الذنوب، وثقلها بعقبةٍ، فإذا أعتق رقبة، أو عمل صالحاً، كان مثله مثل من اقتحم العقبة، وهي الذنوب تضره، وتؤذيه وتثقله.
ثم قال تعالى :﴿ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة ﴾.
قال سفيان بن عيينة : كل شيء قال فيه :« وَمَا أدْرَاكَ »، فقد أخبر به، وكل شيء قال فيه :« ومَا يُدرِيكَ »، فإنه لم يخبره به، وما أدراك ما اقتحام العقبة، وهذا تعظيم لإلزام أمر الدين، والخطاب للنبي ﷺ ليعلمه اقتحام العقبة، ثم إنه تعالى فسر العقبة بقوله :﴿ فَكُّ رَقَبَةٍ ﴾.