ومعنى الآية : ما ودعك ربك وما قلاك، فترك الكاف، لأنه رأس آية، كقوله تعالى :﴿ والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات ﴾ [ الأحزاب : ٣٥ ] أي : والذاكرات الله.
فصل في سبب نزول الآية
قال المفسرون : انحبس الوحي عن النبي ﷺ اثني عشر يوماً.
وقال ابن عباس : خمسة عشر يوماً [ وقيل خمسة وعشرين يوماً.
وقال مقاتل : أربعين يوماً ].
فقال المشركون : إن محمداً ﷺ قلاه ربه وودعه، ولو كان أمره من الله لتابع عليه كما كان يفعل بمن كان قبله من الأنبياء، فنزلت هذه الآية.
وروى البخاريُّ عن جندب بن سفيان قال : اشتكى رسول الله ﷺ فلم يقم ليلتين، أو ثلاثاً، فجاءت أم جميل امرأة أبي لهب - لعنة الله عليها - فقالت : يا محمدُ، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك ليلتين، أو ثلاث، فأنزل الله تعالى :﴿ والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى ﴾.
وروي عن أبي عمران الجوني : قال : أبطأ جبريل على النبي ﷺ حتى شق عليه، فجاءه وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو، فنكت بين كتفيه، وأنزل عليه :﴿ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى ﴾.
وروي أن خولة كانت تخدم النبي ﷺ فقالت :« إن جرواً دخل البيت، فدخل تحت السرير فمات، فمكث نبي الله أياماً لا ينزل عليه الوحي، فقال :» يا خولةُ ما حدّثَ في بَيْتِي؟ ما لِجِبْريلَ لا يَأْتِينِي «؟ قالت خولة : فقلت : لو هيأت البيت، وكنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فإذا جرو ميت، فأخذته، فألقيته خلف الجدار، فجاء نبي الله ﷺ ترعد لحياه - وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة - فقال : يا خولة دثِّرِيِنْي، فأنزل الله هذه السورة، ولما نزل جبريل سأله النبي ﷺ عن التّأخر، فقال :» أما عَلِمْتَ أنَّا لا ندخلُ بَيْتَاً فيهِ كَلبٌ، ولا صُورةٌ «.
وقيل : لما سألته اليهود عن الروح، وذي القرنين وأهل الكهف، قال النبي ﷺ :» سَأخْبركُمْ غداً « ولم يقل : إن شاء الله، فاحتبس عنه الوحي إلى أن نزل جبريل - عليه السلام - بقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ﴾ [ الكهف : ٢٣، ٢٤ ]، فأخبره بما سئل عنه، وفي هذه القصة نزلت :﴿ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى ﴾.
قوله :﴿ وَلَلآخِرَةُ ﴾ الظاهر في هذه اللام أنها جواب القسم، وكذلك وفي » ولسَوْفَ « أقسم الله تعالى على أربعة أشياءٍ : اثنان منفيان، وهما توديعه وقلاه، واثنان مثبتان مؤكدان، وهما كون الآخرة خيراً له من الأولى، وأنه سوف يعطيه ما يرضيه. وقال الزمخشري :» فإن قلت : ما هذه اللام الداخلة على « سَوْفَ »؟.