« لن يغلب عسر يسرين » والسبب فيه أن العرب إذا أتت باسم، ثم أعادته مع الألف واللام، كان هو الأول، نحو : جاء رجل فأكرمتُ الرجل، وقوله تعالى :﴿ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول ﴾ [ المزمل : ١٥، ١٦ ]، ولو أعادته بغير ألف ولام كان غير الأول، فقوله تعالى :﴿ فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً ﴾ لما أعاد العسر الثاني أعاده ب « أل »، ولما كان اليُسْر الثاني غير الأول لم يعده بأل.
وقال الزمخشريُّ : فإن قلت : ما معنى قول ابن عبَّاس؟ وذكر ما تقدم.
قلت : هذا عمل على الظاهر، وبناء على قوة الرجاء، وأن موعد الله تعالى لا يحمل إلا على أوفى ما يحتمله اللفظ، وأبلغه، والقول فيه أنه يحتمل أن تكون الجملة الثانية تكريراً للأولى كما كرر قوله :﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ لتقرير معناها في النفوس، وتمكنها في القلوب، وكما يكرر المفرد في قوله :« جاء زيد زيد »، وأن تكون الأولى عدة بأن العسر مردوف بيُسْرٍ [ لا محالة والثانية : عدة مستأنفة بأن العسر متبوع بيسر ] فهما يسران على تقدير الاستئناف وإنَّما كان العسر واحداً لأنه لا يخلو، إما أن يكون تعريفه للعهد، وهو العسر الذي كانوا فيه، فهو هو، لأن حكمه حكم زيد في قولك :« إن مع زيد مالاً، إن مع زيد مالاً »، وإما أن يكون للجنس الذي يعلمه كل أحد، فهو هو أيضاً، وأما اليسر، فمنكر متناول لبعض الجنس، فإذا كان الكلام الثاني مستأنفاً غير مكرر، فقد تناول بعضاً غير البعض الأول بغير إشكال.
قال أبو البقاء : العسر في الموضعين واحد؛ لأن الألف واللام توجب تكرير الأول، وأما يُسْراً في الموضعين، فاثنان، لأن النكرة إذا أريد تكريرها جيء بضميرها، أو بالألف واللام ومن هنا قيل :« لَنْ يَغْلِبَ عُسرٌ يُسرَيْنِ ».
وقال الزمخشريُّ أيضاً فإن قلت :« إن » مَعَ « للصحبة، فما معنى اصطحاب اليسر والعسر؟ قلت : أراد أن الله - تعالى - يصيبهم بيسر بعد العسر الذي كانوا فيه بزمان قريب، فقرب اليسر المترقب، حتى جعله كالمقارن للعسر زيادة في التسلية، وتقوية للقلوب.
وقال أيضاً فإن قلت : فما معنى هذا التنكير؟.
قلت : التفخيم كأنه قيل : إنّ مع العسر يسراً عظيماً، وأي يسر، وهو في مصحف ابن مسعود مرة واحدة.
فإن قلت : فإذا أثبت في قراءته غير مكرر فلم قال : والذي نفسي بيده لو كان العسر في حجر لطلبه اليسر، حتى يدخل عليه، إنه لن يغلب عسر يسرين؟.
قلت : كأنه قصد اليسرين، وأما في قوله :»
يُسْراً « من معنى التفخيم، فتأوله بيسر الدَّارين، وذلك يسران في الحقيقة.

فصل في تعلق هذه الآية بما قبلها


تعلق هذه الآية بما قبلها أن الله تعالى بعث نبيه ﷺ فعيَّره المشركون بفقره، حتى قالوا له : نجمع لك مالاً، فاغتنم لذلك، وظن أنهم إنما رغبوا عن الإسلام لكونه فقيراً حقيراً عندهم، فعدد الله - تعالى - عليه منته بقوله تعالى :﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ﴾، أي : ما كنت فيه من أمر الجاهلية، ثم وعده بالغنى في الدنيا ليزيل في قلبه ما حصل فيه من التأذي، بكونهم عيَّروه بالفقر، فقال تعالى :﴿ فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً ﴾ فعطفه بالفاء أي : لا يحزنك ما عيروك به في الفقر، فإن ذلك يسراً عاجلاً في الدنيا فأنجز له ما وعده، فلم يمت، حتى فتح عليه »
الحجاز «، و » اليمن « ووسع عليه ذات يده، حتَّى كان يعطي الرجل المائتين من الإبل، ويهب الهبات السنية، وترك لأهله قوت سنته، وهذا وإن كان خاصاً بالنبي - ﷺ - فقد يدخل فيه بعض أمته ﷺ إن شاء الله تعالى، ثم ابتدأ فصلاً آخر من أمر الآخرة، فقال :
﴿ إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً ﴾ فهذا شيء آخر، والدليل على ابتدائه، تعديه من فاء، وواو، وغيرهما من حروف النسق التي تدخل على العطف، فهذا عام لجميع للمؤمنين، ﴿ إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً ﴾ للمؤمنين يسراً في الآخرة لا محالة، وربما اجتمع يسرُ الدنيا، ويسرُ الآخرة.


الصفحة التالية
Icon