ورابعها : المعنى لم يكونوا منفكين عن ذكر محمد ﷺ بالمناقب والفضائل، حتى أتتهم البينة، والمضارع هنا بمعنى الماضي كقوله تعالى :﴿ واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين ﴾ [ البقرة : ١٠٢ ]، أي ما تلت أي : ما كانوا منفكين عن ذكر مناقبه، ثم لما جاءهم محمد تفرقوا، ونظيره ﴿ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ﴾ [ البقرة : ٨٩ ].
وخامسها : أنهم كانوا متفقين على الكفر قبل البينة، فلما جاءتهم البينة تفرقوا، وتكفي هذه المغايرة.
وسادسها : هي كقوله تعالى :﴿ كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين ﴾ [ البقرة : ٢١٣ ] الآية، أي : كان كل منهم جازماً بمذهبه ودينه، فلما بعث محمد ﷺ شكوا في أديانهم، لأن قوله تعالى ﴿ مُنفَكِّينَ ﴾ مشعر بهذا؛ لأن الانفكاك من الشيء هو الانفصال عنه، فمعناه : أن قلوبهم ما خلت عن تلك العقائد، وما انفصلت عن الجزم بصحتها، ثم بعد المبعث لم يبق الأمر على تلك الحالة.
فصل في المراد بأهل الكتاب هنا
قال ابن عباس : أهل الكتاب الذين كانوا ب « يثرب »، وهم : قريظة، والنضير، وبنو قينقاع، والمشركون الذين كانوا ب « مكة » وما حولها، و « المدينة »، وهم مشركو قريش، وقوله تعالى :﴿ مُنفَكِّينَ ﴾ أي : منتهين من كفرهم ﴿ حتى تَأْتِيَهُمُ البينة ﴾ يعني محمداً ﷺ.
وقيل : لانتهاء بلوغ الغاية أي لم يكونوا ليبلغوا نهاية أعمارهم فيموتوا حتى تأتيهم البينة. وقيل : منفكين زائلين إن لم تكن مدتهم لتزول حتى يأتيهم رسول الله ﷺ، والعرب تقول : ما انفككت أفعل كذا، أي ما زلت، وما انفك فلان قائماً، أي : ما زال قائماً.
وأصل الفك للفتح، ومنه : فك الكتاب، وفك الخلخال.
وقيل :« مُنفكِّينَ »، بارحين، أي : لم يكونوا ليبرحوا ويفارقوا الدنيا حتى تأتيهم البينة.
وقال ابن كيسان : أي : لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد ﷺ ويسمونه الأمين في كتابهم حتى بعث فلما بعث ﷺ حسدوه، وجحدوه، وهو قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ﴾ [ البقرة : ٨٩ ]، ولهذا قال تعالى :﴿ وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب ﴾ [ البينة : ٤ ]، وعلى هذا فقوله تعالى :﴿ والمشركين ﴾ أي : ما كانوا يسيئون القول في محمد ﷺ حتى بعث، فإنهم كانوا يسمونه الأمين، حتى أتتهم البينة على لسانه، وبعث إليهم ﷺ فحينئذ عادوه.
وقال بعض اللغويين :« مُنفكِّينَ »، أي : هالكين، من قولهم : انفك صلا المرأة عند الولادة، وهو أن ينفصل فلا يلتئم فتهلك، والمعنى : لم يكونوا معذّبين، ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب.
فصل في المراد بالمشركين
قال قوم : المراد بالمشركين من أهل الكتاب، فمن اليهود من قال : عزير ابن الله ومن النصارى من قال : عيسى هو الله.