قوله :﴿ إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر ﴾، قرأ الحسن وابن محيصن، وطلحة، والزعفراني :« أنْطَيْنَاكَ » بالنون. قال الرازي، والتبريزي : أبدل من العين نوناً.
فإن عنينا البدل الصناعي فليس بمسلَّم، لأن كل مادة مستقلة بنفسها، بدليل كمال تصريفها، وإن عنينا بالبدل : أن هذه وقعت موقع هذه لغة، فقريب، ولا شكَّ أنها لغة ثابتة.
قال التبريزي : هي لغة العربِ العاربةِ من أولى قريش.
وفي الحديث :« اليَدُ العُلْيَا المُنطِيةُ، واليَدُ السُّفلَى المُنطَاةُ ».
وقال الشاعر وهو الأعشى :[ المتقارب ]
٥٣٢٤- جِيادُكَ خَيْرُ جِيادِ المُلوكِ | تُصَانُ الجِلالَ وتُنْطَى الحُلُولاَ |
والكوثر :« فَوْعَل »، من الكثرةِ، وصف مبالغة في المفرط الكثرة، مثل النوفل من النَّفل، والجوهر من الجهر، والعرب تسمي كل شيءٍ كثيراً في العدد، والقدر، والخطر : كوثراً؛ قال :[ الطويل ]
٥٣٢٥- وأنْتَ كَثيرٌ يَا ابْنَ مَرْوانَ طَيِّبٌ | وكَانَ أبُوكَ ابْنَ العقَائِلِ كَوثَرا |
قالت : آب بكوثر، أي : بمال كثير.
والكوثر من الغبار الكثير، وقد تكوثر إذا كثر؛ وقال الشاعر :
٥٣٢٦- وقَدْ ثَارَ نَقْعُ المَوْتِ حتَّى تَكْوثَرَا | فصل في المراد بالكوثر |
وروى الترمذي عن ابن عمران قال : قال رسول الله ﷺ :« الكَوْثَرُ : نهرٌ فِي الجنَّةِ، حَافتَاهُ مِنْ ذهَبٍ، ومَجْراهُ عَلى الدُّرّ والياقوت، تُربتُهُ أطْيَبُ مِنَ المِسْكِ، وماؤه أحْلَى مِنَ العَسلِ، وأبْيَضُ مِنَ الثّلْجِ ».
وقال عطاء : هو حوض النبي ﷺ في الموقف وفيه أحاديث كثيرة.
وقال عكرمة : الكوثر : النبوة، والكتاب.
وقال الحسن : هوالقرآن. وقال ابن المغيرة : الإسلام.
وقال ابن كيسان : هو الإيثار.
وقال الحسن بن الفضل : هو تيسير القرآن، وتخفيف الشرائع. وقال أبو بكر بن عياش ويمان بن رئاب هو كثرة الأصحاب والأتباع والأمة.
وحكى الماورديُّ : أنه رفعة الذكر.
وقيل :[ الشفاعة : وقال هلال بن يساف : هو لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وقيل : الصلوات الخمس.
وقيل الفقه في الدين.
وقيل غير ذلك ].
قال القرطبيُّ : وأصح الأقوال : الأول، والثاني؛ لأنه ثابت عن النبي ﷺ نصًّا في الكوثر.
فصل في الكلام على هذه السورة
قال ابنُ الخطيب : هذه السورة كالمقابلة للتي قبلها، فإنه ذكر في الأول البُخل، وترك الصلاة، والرياء، ومنع الماعون، وذكر هنا في مقابلة البخل :﴿ إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر ﴾ وفي مقابلة ترك الصلاة : قوله :« فَصلِّ » أي : دُمْ على الصلاة، وفي مقابلة الرياء قوله تعالى :﴿ لِرَبِّكَ ﴾ أي : لرضاه خالصاً، وفي مقابلة منع الماعون قوله :« وانْحَرْ »، أي : تصدَّق بلحم الأضاحي، ثم ختم السُّورة سبحانه وتعالى بقوله :﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر ﴾، أي : أنَّ المنافق الذي أتى بتلك الأفعال القبيحة سَيمُوتُ ولا يبقى له أثر، وأما أنت فيبقى لك في الدنيا الذكر الجميل، في الآخرة الثواب الجزيل.