فصل في التكرار في الآية


اختلفوا في التَّكرار - هاهنا- هل هو للتأكيد، أم لا؟ وإذا لم يكن للتأكيد فقوله تعالى :﴿ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴾ تأكيد لقوله ﴿ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ وقوله :﴿ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ ﴾ ثانياً تأكيد لقوله :﴿ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ ﴾ أولاً.
ومثله :﴿ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [ الرحمن : ١٣ ]، و ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ [ المرسلات : ١٥ ] في سورتيهما، و ﴿ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ [ التكاثر : ٣، ٤ ]، و ﴿ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ﴾ [ النبأ : ٤ ٥ ] وفي الحديث :« فَلاَ آذَنُ ثُمَّ لا آذنُ، إنَّما فَاطِمةُ بَضعَةٌ منِّي » ؛ وقال الشاعر :[ مجزوء الكامل ]
٥٣٣٠- هَلاَّ سَألْتَ جُموعَ كِنْ دّةَ يَوْمَ ولَّوْا أيْنَ أيْنَا
وقوله :[ الرجز ]
٥٣٣١- يَا عَلْقَمَهْ يَا عَلْقَمَهْ يَا عَلْقَمَهْ خَيْرَ تَمِيمٍ كُلِّهَا وأكْرمَهْ
وقوله :[ الرجز ]
٥٣٣٢- يَا أقَرعُ بْنُ حَابِسٍ يَا أقْرَعُ إنَّكَ إنْ يُصْرَعْ أخُوكَ تُصْرَعُ
وقوله :[ الطويل ]
٥٣٣٣- ألا يا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلَمِي ثُمَّتَ اسْلَمِي ثَلاثَ تَحِيَّاتٍ وإنْ لَمْ تَكَلَّمِ
وقوله :[ الرجز ]
٥٣٣٤- يَا جَعْفَرٌ يَا جَعْفَرٌ يَا جَعْفَر إنْ أكُ دَحْدَاحَاً فأنت أقْصَرُ
وقوله :[ المديد ]
٥٣٣٥- يَا لَبكْرٍ أنْشِزُوا لِي كُلَيْبَاً يَا لَبكْرٍ أيْنَ أيْنَ الفِرَارُ
قالوا : والقرآن جاء على أساليب كلام العرب، وفائدة التكرير هنا، قطع أطماع الكفار وتحقيق الإخباربموافقتهم على الكفر وأنهم لا يسلمون أبداً.
وقيل : هذا على مطابقة قولهم : تعبد آلهتنا ونعبد إلهك [ ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك، ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك ]، فنجري على هذا أبداً سنةٌ وسنةً، فأجيبوا عن كل ما قالوه بضده، أي : أن هذا لا يكون أبداً.
وقال جماعة : ليس للتأكيد، فقال الأخفش :« لا أعبدُ » الساعة « مَا تَعْبُدُونَ، ولا أنْتُم عَابِدُونَ » السنة « ما أعبدُ » فلا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد؛ فزال التوكيد إذ قد تقيد كل جملة بزمان مغاير؛ انتهى.
وفيه نظر، كيف يقيد رسول الله ﷺ نفي عبادته لما يعبدون بزمان؟ هذا مما لا يصح، وفي أسباب النزول أنهم سألوه أن يعبد آلهتهم سنة، فنزلت، فكيف يستقيم هذا؟.
وجعل أبو مسلم التغاير بما تقدم عنه، وهو كون « ما » في الأوليين بمعنى « الذي »، وفي الأخريين : مصدرية، وفيه نظر من حيث إن التكرار إنَّما هو من حيث المعنى، وهذا موجود، كيف قدر « مَا ».
وقال ابن عطية : لما كان قوله :« لا أعْبدُ » محتملاً أن يراد به الآن، ويبقى المستقبل منتظراً ما يكون فيه جاء البيان بقوله :﴿ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴾ أبداً وما حييت، ثم جاء قوله :﴿ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ ﴾ الثاني حتماً عليهم أنهم لا يؤمنون أبداً كالذي كشف الغيب، كما قيل لنوح - ﷺ - :


الصفحة التالية
Icon