قال القرطبيُّ : كانوا يعبدون الأوثان، فإذا ملُّوا وثناً، وسئمُوا العبادة له رفضوه، ثم أخذوا وثناً غيره بشهوة نفوسهم، فإذا مروا بحجارة تعجبهم ألقوا هذه، ورفعوا تلك، فعظموها، ونصبوها آلهة يعبدونها، فأمر أن يقول :﴿ لا أعبدُ مَا تعبدُون ﴾ اليوم من هذه الآلهة التي بيْن أيديكم، ثم قال ﷺ :﴿ ولا أنتُم عَابدوُنَ مَا أعبدُ ﴾ إنما تعبدون الوثنَ الذي اتخذتموه، وهو عندكم الآن، ﴿ وَلاَ أنتُمْ عَابِدونَ ما أعبدُ ﴾، فإني أعبد إلهي.
قوله :﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾. أتى بهاتين الجملتين الإثباتيتين بعد جملة منفية لأنه لما ذكر أنّ الأهم انتفاؤه ﷺ من دينهم، بدأ بالنفي في الجمل السابقة بالمنسوب إليه، فلما تحقق النفيُ رجع ﷺ إلى خطابه بقوله :﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ ولِيَ دِينِ ﴾ مهادنة لهم، ثم نسخ ذلك الأمر بالقتال.
وفتح الياء في « لِيَ » : نافع وهشام وحفص والبزي بخلاف عنه، وأسكنها الباقون.
وحذف « الياء » من « ديني » وقفاً ووصلاً : السبعة، وجمهور القراء، وأثبتها في الحالين سلام ويعقوب، وقالوا : لأنها اسم مثل الكاف في « دينك » والثاني قد تقدم إيضاحه.

فصل


في الكلام معنى التهديد، كقوله تعالى :﴿ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٣٩ ]، أي : إن رضيتم بدينكم، فقد رضيناه بديننا، ونسخ هذا الأمر بالقتال.
[ وقيل : السورة منسوخة.
وقيل : ما نسخ منها شيء؛ لأنها خبر، ومعنى لكم دينكم : أي جزاء دينكم، ولي دين : أي جزاء ديني، وسمى دينهم ديناً؛ لأنهم اعتقدوه ].
وقيل : المعنى : لكم جزاؤكم ولي جزائي، أي : لأن الدين الجزاء.
وقيل : الدِّين العقوبة، لقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله ﴾ [ النور : ٢ ]، والمعنى : لكم العقوبة من ربِّي، ولي العقوبة من أصنامكم، فأنا لا أخشى عقوبة الأصنام؛ لأنها جمادات، وأما أنتم فيحق عليكم أن تخافوا عقوبة جبَّار السَّماوات والأرض. وقيل : الدين الدعاء، لقوله تعالى :﴿ فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين ﴾ [ غافر : ١٤ ]، وقوله :﴿ وَمَا دُعَآءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ﴾ [ الرعد : ١٤ ].
وقيل : الدين العادة؛ قال الشاعر :[ الوافر ]
٥٣٣٦- تَقُولُ إذَا دَرأتُ لهَا وضِينِي أهَذَا دِينهُ أبَداً ودينِي
والمعنى : لكم عادتكم المأخوذة من أسلافكم ومن الشيطان، ولي عادتي من ربي.

فصل


قال ابن الخطيب :« جرت العادة بأن يتمثلوا بهذه الآية عند المناكرة، وذلك غير جائز؛ لأن القرآن أنزل ليتدبر فيه، ويعمل بموجبه، فلا يتمثّل به ». والله أعلم.


الصفحة التالية
Icon