فالجواب عن الأول : أن هذا أبلغ كأنه يقول : إني أثنيت على من هو أقبح فعلاً منهم كاليهود فإنهم بعد ظهور المعجزات الظاهرة العظيمة، كفلق البحر، ونتق الجبل ونزول المنِّ والسلوى عصوا ربَّهم، وأتوا بالقبائح، ولما تابوا قبلت توبتهم، فإذا كنت قابلاً لتوبة أولئك، وهم دونكم، أفلا أقبل توبتكم، وأنتم خير أمة أخرجت للنَّاس؟ أو لأني شرعت في توبة العصاة، والشروع ملزم أو هو إشارة إلى تخفيف جنايتهم، أي : لستم أول من جنى، والمصيبة إذا عمت خفت؛ أو كما قيل :[ المتقارب ]

٥٣٣٩- كَما أحْسنَ اللهُ فِيما مَضَى كَذلِكَ يُحسِنُ فِيمَا بَقِي
والجواب عن الثاني : لعله خص هذه الأمة بمزيد الشرفِ، لأنه لا يقال في صفات العبد : غفار أو يقال : تواباً، ويقال إذا كان آتياً بالتوبة، فكأنه تعالى يقول : كنت لي سمياً من أول الأمر، أنت مؤمن، وأنا مؤمن، وإن اختلف المعنى فتب حتى صرت سمياً في آخر الأمر، فأنت تواب، وأنا تواب، ثم التواب في حق الله تعالى أنه يقبل التوبة كثيراً، فيجب على العبد أن يكون إتيانه بالتوبة كثيراً.
[ وأنه إنما قال : تواباً، لأن القائل قد يقول : أستغفر الله، وليس بتائب كقول المستغفر بلسانه المصر بقلبه، كالمستهزئ.
فإن قيل قد يقول : أتوب، وليس بتائب.
فلنا : فإذن يكون كاذباً، فإن التوبة اسم للرجوع، أو الندم بخلاف الاستغفار، فإنه لا يكون كاذباً فيه، فيكون تقدير الكلام : وأستغفر الله بالتوبة، وفيه تنبيه على خواتم الأعمال ].
والجواب عن الثالث : أنه راعى العدل، فذكر اسم الذَّات مرتين، وذكر اسم الفعل مرتين؛ أحدهما : الرب والثاني : التواب، فلما كانت التربية تحصل أولاً، والتوبة آخراً، لا جرم ذكر اسم الرب أولاً، واسم التوبة أخراً.

فصل في نزول السورة


قال ابن عمر - رضي الله عنهما - نزلت هذه السورة ب « منى » في حجة الوداع ثُمَّ نزلت :﴿ اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً ﴾ [ المائدة : ٣ ] فعاش ﷺ بعدها خمسين يوماً، ثم نزل :﴿ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ] فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوماً، ثم نزلت :﴿ واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ﴾ [ البقرة : ٢٨١ ] فعاش بعدها ﷺ أحداً وعشرين يوماً.
وقال مقاتل : سبعة أيام.
وقيل غير ذلك.

فصل


قال ابن الخطيب : اتفق الصحابة - رضي الله عنهم - على أن هذه السورة دلت على نعي رسول الله ﷺ.
فإن قيل : كيف دلت السورة على هذا المعنى؟.
فالجواب من وجوه :
أحدها : قال بعضهم : إنما عرفوا ذلك لما روي أنه ﷺ خطب عقيب السورة، وذكر التخيير.
وثانياً : أنه لما ذكر حُصول النَّصر، ودخول النَّاس في دين الله أفواجاً، دل ذلك على حصول التمام، والكمال، وذلك يستعقبه الزَّوال؛ كما قيل :[ المتقارب ]


الصفحة التالية
Icon