وقد تقدم أن « تَمْنُنْ » بمعنى تضعف، وهو قول مجاهد.
إلا إنَّ أبا حيان قال - بعد كلام الزمخشريِّ - :« وهذا لا يجوز أن يحمل القرآن عليه لأنه لا يجوز ذلك إلا في الشعر، ولنا مندوحة عنه مع صحته معنى ».
والكوفيون يجيزون ذلك، وأيضاً : فقد قرأ الحسن والأعمش :« تَسْتكثِرَ » أيضاً على إضمار « أن »، كقولهم :« مُرْهُ يحفرها ».
وأبلغ من ذلك التصريح بأن في قراء عبد الله :« ولا تمنن أن تستكثر ».
وقرأ الحسن - أيضاً - وابن أبي عبلة تستكثرْ جزماً، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون بدلاً من الفعل قبله. كقوله :﴿ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ ﴾ [ الفرقان : ٦٨ - ٦٩ ] ف « يُضَاعَفُ » بدلاً من « يَلْقَ »؛ وكقوله :[ الطويل ]

٤٩٥٣ - مَتَى تَأتِنَا تُلْمِمْ بنَا في دِيَارنَا تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً ونَاراً تَأجَّجَا
ويكون من المنِّ الذي في قوله تعالى :﴿ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى ﴾ [ البقرة : ٢٦٤ ].
الثاني : أن يشبه « ثرو » بعضد فيسكن تخفيفاً. قاله الزمخشري.
يعني : أنه يأخذ من مجموع « تستكثر » [ ومن الكلمة التي بعده وهو الواو ما يكون فيه شبهاً بعضد، ألا ترى أنه قال : أن يشبه ثرو، فأخذ بعض « تستكثر » ] وهو الثاء، والراء وحرف العطف من قوله :﴿ وَلِرَبِّكَ فاصبر ﴾ ؛ وهذا كما قالوا في قول امرىء القيس :[ السريع ]
٤٩٥٤ - فالْيَوْمَ أشْرَبْ غَيْرَ مُسْتحقِبٍ إثْماً من اللَّهِ ولا واغِلِ
بتسكين « أشْرَبْ » - أنهم أخذوا من الكلمتين رَبْغَ ك « عضد » ثم سكن.
وقد تقدم في سورة « يوسف » في قراءة قُنبل :« من يَتّقي »، بثبوت الياء، أن « مَنْ » موصولة، فاعترض بجزم « يَصْبِر »؟.
فأجيب بأنه شبه ب « رف »، أخذوا الباء والراء من « يَصْبِر » والفاء من « فإنَّه »، وهذه نظير تيك سواء.
الوجه الثالث : أن يعتبر حال الوقف، ويجرى الوصل مجراه، قاله الزمخشري، أيضاً.
يعني أنه مرفوع، وإنما سكن تخفيفاً، أو أجري الوصل مُجْرَى الوقفِ.
قال أبو حيان :« وهذان لا يجوز أن يحمل عليهما مع وجود أرجح منهما، وهو البدل معنى وصناعة ».

فصل في تعلق الآية بما قبلها


في اتصال هذه الآية بما قبلها أنه تعالى أمره قبل هذه الآية بأربعة أشياء : إنذار القوم، وتكبير الرب، وتطهير الثياب، وهجر الرجز، ثم قال - جلَّ ذكره - :﴿ وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ﴾، أي : لا تمن على ربِّك بهذه الأعمال الشاقة كالمستكثر لما يفعله بل اصبر على ذلك كله لوجه ربِّك متقرباً بذلك إليه غير ممتن به عليه.
قال الحسن - رحمه الله - : بحسناتك، فتستكثرها.
وقال ابن عباس وقتادة وعكرمةُ : ولا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها.


الصفحة التالية
Icon