فإن كان المراد النار جاز فيه وجهان :
أن يكون خبراً بعد خبرٍ، وأن يكون خبر مبتدإ مضمرٍ، أي : هي نذير، والتذكِر - لما تقدم - من معنى النَّسبِ. وإن كان الباري تعالى أو رسوله ﷺ كان على خبر مبتدإ مضمر، أي : هو نذير.
و « للبشر » : إما صفة، وإما مفعول ل « نذير » واللام مزيدة لتقوية العامل.
قوله :﴿ لِمَن شَآءَ ﴾، فيه وجهان :
أحدهما : أنه بدل من البشر بإعادة العامل كقوله :﴿ لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ ﴾ [ الزخرف : ٣٣ ]، و ﴿ لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ ﴾ [ الأعراف : ٧٥ ]، وأن يتقدم مفعول « شاء » أي : نذيراً لمن شاء التقدم أو التأخر، وفيه ذكر مفعول « شاء » وقد تقدم أنه لا يذكر إلا إذا كان فيه غرابة.
الثاني : وبه بدأ الزمخشري : أن يكون « لمن شاء » خبراً مقدماً، و « أن يتقدم » مبتدأ مؤخر.
قال : كقولك : لمن توضّأ أن يصلي، ومعناه : مطلق لمن شاء التقدم أو التأخر أن يتقدم، أو يتأخر انتهى.
فقوله :« التقدم أو التأخر » وهو مفعول « شاء » المقدر.
قال أبو حيَّان رحمه الله : قوله :« أن يتقدم » هو المبتدأ معنى لا يتبادر إلى الذهن، وفيه حذف.
قال القرطبي : اللام في « لمن شاء » متعلقة ب « النذير »، أي : نذيراً لمن شاء منكم أن يتقدم إلى الخير والطاعة أو يتأخر إلى الشر والمعصية، نظيره :﴿ ولقد علمنا المستقدمين منكم ﴾، أي : في الخير ﴿ وَلَقَدْ علمنالمستأخرين ﴾ [ الحجر : ٢٤ ] عنه، قال الحسن : هذا وعيد وتهديد وإن خرج مخرج الخبر، كقوله تعالى :﴿ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [ الكهف : ٢٧ ].
وقيل : المعنى لمن شاء الله أن يتقدم أو يتأخر، فالمشيئة متصلة بالله - تعالى - والتقديم بالإيمان والتأخير بالكفر.
وكان ابن عباس يقول : هذا تهديد وإعلام أنَّ من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد ﷺ تسليماً كثيراً جوزي بثوابٍ لا ينقطع، ومن تأخر عن الطاعة، وكذب محمداً ﷺ عوقب عقاباً لا ينقطع.
وقال السديُّ :« لمن شاء منكم أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها، أو يتأخر عنها إلى الجنة ».
فصل فيمن استدل بالآية على كون العبد متمكناً من الفعل
احتج المعتزلة بهذه الآية على كون العبد متمكناً من الفعل غير مجبور عليه.
وجوابه : أنَّ هذه الآية دلَّت على أن فعل العبد معلق على مشيئته، لكن مشيئة العبد معلقة على مشيئة الله - تعالى جل ذكره - كقوله تعالى :﴿ وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ﴾ [ الإنسان : ٣٠ ].
وحينئذ تصير الآية حجة عليهم.
قال ابن الخطيب : وذكر الأصحاب جوابين آخرين :
الأول : معنى إضافة المشيئة إلى المخاطبين، التهديد، كقوله تعالى :﴿ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾.
الثاني : أنَّ هذه المشيئة لله - تبارك وتعالى - على معنى : لمن شاء الله منكم أن يتقدم، أو يتأخر.