الرابع : وهو المختار : أن يكون حالاً من « ملّة » فالعامل فيه ما قَدَّرناه عاملاً فيها، وتكون حالاً لازمة؛ لأن الملة لا تتغير عن هذا الوصف، وكذلك على القول بجعلها حالاً من « إبراهيم » ؛ لأنه لم ينتقل عنها.
فإن قيل : صاحب الحال مؤنث، فكان ينبغي أن يطابقه التأنيث، فيقال : حنيفة.
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن « فعيلاً » يستوي فيه المذكر والمؤنث.
والثاني : أن الملّة بمعنى الدين، ولذلك أبدلت منه في قوله ﴿ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ﴾ [ الأنعام : ١٦١ ] ذكر ذلك ابن الشَّجَرِيِّ في « أماليه ».
و « الحَنَفُ » : الميل، ومنه سمي الأَحْنَفُ؛ لميل إحدى قدميه بالأصابع إلى الأخرى؛ قالت أُمُّهُ :[ الرجز ]

٨٠٩ وَاكللهِ لَوْلاَ حَنَفٌ بِرِجْلِهِ مَا كَانَ في فِتْيَانِكُمْ مِنْ مِثْلِهِ
ويقال : رجل أَحْنَفُ، وامرأة حَنْفَاءُ.
وقيل : هو الاستقامة، وسمي المائل الرِّجْل بذلك تفاؤلاً؛ كقولهم لِلَّدِيغ « سَلِيم » ولِلْمَهْلكة :« مَفَازة » قاله ابن قتيبة [ وهو مروي عن محمد بن كعب القرظيّ ].
وقيل : الحَنيفُ لقب لمن تديَّن بالإسلام؛ قال عَمْرٌو :[ الوافر ]
٨١٠ حَمِدْتُ اللهَ حِينَ هَدَى فُؤَادِي إلى الإسْلاَمِ وَالدِّينِ الحَنِيفِ
[ قاله القفال. وقيل : الحنيف : المائل عما عليه العامة إلى ما لزمه ].
قال الزجاج؛ وأنشد :[ الوافر ]
٨١١ وَلَكِنَّا خُلِقْنَا إذْ خُلِقْنَا حَنِيْفاً دِينُنَا عَنْ كُلِّ دِيْنِ
وأما عبارات المفسرين، فقال ابن عباس والحسن ومجاهد رضي الله تعالى عنهم أجمعين : الحنيفية حج البيت.
وعن مجاهد أيضاً : اتباع الحق.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الحنيف المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام.
وقيل : اتباع شرائع الإسلام.
وقيل : أخلاص الدين قاله الأصم.
وقال سعيد بن جبير : هي الحج الحسن، وقال قَتَادة : الحنيفية الختان، وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات، وإقامة المناسك.
قوله :﴿ وَمَا كَانَ مِنَ المشركين ﴾ تنبيه على أن اليهود والنصارى أشركوا؛ لأن بعض اليهود قالوا : عزيزٌ ابن الله، والنصارى قالوا : المسيح ابن الله وذلك شرك.
وأيضاً إن الحنيف اسم لمن دَانَ بدين إبراهيم ﷺ، ومعلوم أنه عليه السلام أتى بشرائع مخصوصة، من حجّ البيت الخِتَان وغيرهما، فمن دَانَ بذلك فهو حنيف، وكانت العرب تدين بهذه الأشياء، ثم كانت تشرك، فقيل من أجل هذا « حنيفاً، وما كان من المشركين » ونظيره قوله :﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ ﴾ [ يوسف : ٦ ].

فصل في الكلام على هذه الآية


اعلم أن الله تعالى ذكر هذه الآية على طريق الإلزام لهم وهو قوله :« ملّة إبراهيم حنيفاً » وتقديره : إن كان طريق الدين التقليد فالأولى في ذلك اتباع ملة إبراهيم حنيفاً؛ لأن هؤلاء المختلفين قد « أتفقوا » على صحّة دين إبراهيم، والأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه، فكأنه سبحانه وتعالى قال : إن كان المقول في الدين على الاستدلال والنظر، فقد قدمنا الدلائل، وإن كان المقول على التقليد، فالرجوع إلى دين إبراهيم ﷺ وترك الهيودية والنصرانية أولى.


الصفحة التالية
Icon